شغلَ العفو عن مجموعةٍ من اللاجئين العُمانيين ساحات
التواصل الاجتماعي، والإعلام البديل المتعلقة بسلطنة عُمان لعدة أيام، وبين تغطيات
سريعة مُرتجلة لبعض وسائل الإعلام العالمية، أو التدوينات المرئية والمكتوبة، أو
تلك التي غُردت في مواقع مثل تويتر، أو المنشورات التي نُشرت في الفيس كان
العمانيون هم الفئة الوحيدة التي استقبلت الخبر برحابة صدر، وبإدراك دقيق لماهية
هذا العفو الذي صدر من جلالة السلطان هيثم بن طارق آل سعيد، وبينما انشغل محللو
الغفلة الذين لا يعرفون عُمان جيدا بدراسة أبعاد هذا الخبر، وبابتكار علاقات
مُربكة مع المتلقي نتيجة لغموض عُمان، أدرك لاجئان عُمانيان في المملكة المتحدة أن
مثل هذه الأخبار تحدث، وأن الضمانات التي تُقدم لا لبس فيها ولا غبار عليها، كان
أولهما هو اللاجئ العُماني سعيد الجداد وكان الشخص الآخر هو كاتب هذه السطور.
إنه لمن الغريب أن أكون أنا في داخل هذه الدائرة من
الأحداث، كغرابة ذلك المقطع المصوّر لي وأنا أحزم العلمَ العُماني في حقيبتي،
الخبر الذي نشرته وكالة كبيرة مثل [البي بي سي عربية] بأخطاء فادحة. الأمر الآخر
الغريب، هو ما يفعله مثل هذا الخبر في الوجدان والذات، كيف لإنسان قضى سنوات من
التمادي في حق بلادِه شتما وسبا وتجاوزا أن يُغسل فؤاده بماء البرد، وأن يكون لديه
"صفر" حجّة ليحقد أو ليغضب، أي عفوٍ سامٍ هذا يتعرض له مخطئ مسيء، وكيف
أكون أنا ذلك الإنسان الذي تلقى هذا العفو، وتلقى هذا الخبر. إن شيمة العفو ليست
بجديدة على عُمان، لقد عفا المرحوم جلالة السلطان المعظم عن من رفع السلاح في وجه
الدولة، وأكمل هذه المسيرة بالعفو الدائم، عن الذين شاركوا في التنظيم السري في
بدايات العقد الأول من القرن الحاليّ، حتى آخر عفوٍ رسمي له عن قضايا التجمهر والإعابة!
أي بلاد هاجرنا وأي بلاد عُدنا لها، يحدث كل شيء وينتصر الغفران في نهاية المطاف.
على عكس باقي الشعوب العربية، استقبل العُمانيون الخبر بارتياح
تام، فهم يعرفون هذه الشيمة عن عُمان، وقد أخذت جهود السفارة العُمانية في المملكة
المتحدة مقاربة معنوية أكثر من تلك الإجرائية التي قد تلجأ لها دولٌ أخرى، كيف
يمكنك أن تُقنع مهاجرا مصابا بالهلع والذعر وما قد يكون اكتئاب ما بعد الصدمة
وآثار العزلة والبرد الشديد وتغير الثقافة والمناخ والطقس لتقول له أن صفحتك بيضاء
لتعود إلى بلادك؟ إن هذا ليحتاج إلى درس من الدروس العُمانية، درس يُثبت بالفعل،
وهذا ما حدث لهذين اللاجئين الذيْن كنت أحدهما، ما لبث أن تغير الموقف بعد أن وصل
خبر العفو عبر سعادة السفير عبد العزيز الهنائي، ولم يمر أكثر من أسبوع على وصول
الخبر وتأكيد الضمانات وأنه عفو غير مشروط وأن حقهما في الكتابة والتعبير في
بلادهما مصون ومضمون بالقانون، لم يعد هناك أي سبب أو عذر للبقاء خارج عُمان،
ومنها بدأت الإجراءات التي لم تأخذ وقتا طويلا، تكفلت السفارة العمانية بكل
الأعباء التي تُعيد لاجئين عُمانيين إلى بلادهما، وفي الطائرة التي أقلتهما رافقهما
السفير العُماني في بريطانيا إلى عُمان، لتنزل الطائرة وليمرا عبر بوابات الحدود
آمنين، سالمين وقد استضلا بحمى جلالة السلطان واحتميا بعهده الزاهر الميمون، إنه
لشعور غريب للغاية أن أكون هذا الإنسان، وكأنني انفصلت عن ذاتي وأراقب عُمانيا آخر
كنت سأشعر بالحبور والسرور الكبيرين إذ أجده معفيا عنه بصفحة بيضاء جديدة وقد خرج
عن دوامة تعيسة لا نهاية لها سوى الإرهاق وخسارة الذات أو ربما ما هو أفدح وأسوأ
وأخطر أن يخسر الإنسان احترامَه لذاته ويقرر أن يسلم بلادَه للشيطان.
خبرٌ مثل هذا العفو كان له وقع السحر على هذين الذين
عادا متلهفين لتراب عُمان، ورغم مرارة الحجرِ، واضطرارات الوباء المرير الذي مر
على هذا الكوكب، نصلُ إلى عُمان، وفي حالتي أصل إلى سمائل، وأعود إلى التعبير
والكتابة، وأزاول حياتي التي انقطعت، أي بلاد نادرة من بلدان العالم تفعل ذلك؟
وإلى أي مدى يمكن لمحترفٍ في التمادي أن يمتن لبلادِه التي احتوت خطاياه. أجمل ما
حدث في كل هذه الظاهرة العمانية هو انتهاء دوّامة من المواجهة العبثية التي
استهلكت من حياتي الكثير، وأشعر بالكثير من الفرح لزميلي العائد معي في رحلة
الطائرة أنه خرج من دوامته أيضا، كانت متاهة كبيرة وحسمها عفو كبير، وربما لو كنت
شخصا آخر والتقيت بأحد هؤلاء المعفو عنهم لربما شعرت بالقلق من تراكمات غضب
المرحلة الماضية، ولكن هذه المرّة ولأنني أحدهما أدركت جيدا أن هذه السياسة هي الأنسب
والأصلح، فما أشعر به من امتنان كبير ومن محبة بالغة ومن انتهاء لمسيرة حافلة بالهياج
أكّد لي أن القلوب تُشفى من الغل، وأن العقول تخرج من ربكة الظنون والخوف وأن
الشفاء الحقيقي يأتي من الحب ومن الثقة أنه ثمة غد أجمل بانتظار الجميع، وأن ظروف
البلدان يعتريها الغموض لبعض الوقت، وما هي إلا مسألة هذا الأزلي
"الوقت" حتى تعاود عُمان مسيرتها المُسالمة والحليمة، وينتصر الصفح، وتزرع
زهور الحِلم ليتحقق الحلم، وها أنا في عُمان، أكتب مجددا، وأزاول حياةً انقطعت بعد
أن تقطعت السبل وظننت أنني سأعيش حياةً في الغربة باسم الهجرة أو اللجوء، انتهت كل
الأسباب التي تدفعني للحياة في ذلك "الهُناك" وعدت إلى هذا
"الهُنا" الذي أسكب فيه حروفي وقد أيقنت أنه مهما ضاقت فإن العفو يفرجُ
عن حنق العقول، وضيق الصدور بواقع الحال. الحمد لله على نعمة عُمان، والحمد لله
على عفو جلالة السلطان، وبسم الله أبدأ الكتابة مجددا وأسأل الله التوفيق والسداد،
وللحديث [الكثير] من البقية.
معاوية بن سالم الرواحي