كنت غارقاً في صناعةِ الخطط عندما ظهرَت أول الأخبار عن هذا
الكائن المجهريّ اللعين، كما فعل الجَميع وقتَها لم ألقِ اهتماما فائقا لذلك الحدث
الوبائي الذي اجتاح [ووهان] الصينية بل جمعت في زوّادتي خرائط مرحلةٍ قادمةٍ من
حياةٍ على دراجة هوائية وقررت السير بها. غمرنا عام 2020 بمفاجآته الشاحبة. لم يعد
هذا الوباء ظاهرة تُدرج تحت خانة ما يحدثُ للآخرين فقط، إنه يحدث لنا أيضا، حولنا،
وفي مدننا. كنت وقتها في مدينة برمنجهام البريطانية أمزّق امتداد الوقتِ بمسارات
القناة المائية التي تصلُ بدين مدينة [ويست برومتش]، بمدينة [ولفرهامبتون]، ثمّة
بيانات كثيرة في نشراتِ الأخبار آليت ألا ألقي لها بالا حتى قرر هذا المجهري أن
يدس أنفه في شؤون السياسة والحياة، بوريس جونسون يعلن الحجر العام في بريطانيا،
وتصلني رسالة من عنوان 10 داوننج ستريت لتخبرني أنه يجب عليّ المكوث في المنزل!
هل هذا جزاء الإنسان عندما تتجاوز طموحاته سقف الممكن؟
أم أنها فقط الأقدار والدروس الإلهية عندما تعمُّ الكوكب كاملا؟ لست أدري. الذي
أعرفه أن خططي كلها قد نُسفت وعُدت مضطرا إلى أيام العزلة والمكوث في المنزل، الحياةُ
التي ظننت أنني نجوت منها وهربت بلا عودةٍ بعد إخائي الوجودي مع خمس دراجات هوائية
عُشت معها أجمل أيامي. خطة الدراجة الثلاثية أجلت، والرحلة الموعودة إلى لندن أجلت
أيضا، الكائن الرياضي الذي كان يقطع الأميال الخمسين والستين ويعود للمنزل مصابا
بالملل أصبح مشروع كائن سمينٍ يحاصره الكسل، ولا تكفيه الساعة التي سمحت بها
الحكومة البريطانية للرياضة كل يوم، مرت الأسابيع والشهور في هذه المتاهة المُحكمة
والوقت اكتسب امتداده الأعمى ليصبح رفيقا من رفاق الجنون، الجدران، والضوء الشاحب
وحياة إلكترونية أعود لها مرغما بعد أن ظننت أنني استطعت الهرب. لم يكن كورونا
درساً لكوكب الأرض فقط، بل كان أيضا مدرسة من مدارس اللاوعي، أدرك فيه الجميع حياة
المكتئبين، وحياة المنعزلين، كانت عزلة خانقة، والدراجات التي كانت تسر عيني أن
أراها أصبحت معادن تُثقل الوجدان بأمنيات عودة الزمان الجميل، وحرية التنقل بين
المدن، واللهاث، والعرق، والكتب المسموعة التي تنطوي مع كل تبديلةٍ تأخذ العجلة
إلى متر إضافي من رحلةٍ مضمونة العودة إلى المنزل.
لقد غيرت بي الكثير يا عام الفيروس، أعدتني لعُمان،
وأخذتني من حياتي التي كنت أظنها لن تتغير، منعتني من الحركة، وحجرتني بين جدران
أربعة ظننت أنني نجوتُ من عشقها، لم أعد ذلك الكائن الذي يحلم بالطواف حول العالم،
أصبحت رحلة صغيرة حول مدينتي تكفي لأستعيد شغفي بالحياة، لم أعد أحلمُ بالكثير،
ولا بالقليل، أصبح الممكن شحيحا، وتغيرت حياتنا إلى ابتسامات خلف الكمامات، وإلى
واقع آلي شاحب صرنا نخاف فيه مصافحة بعضنا البعض، والحكاية لم تصل لنهايتها بعد،
الأعداد تتضخم، والعلم الحديث وشركات الأدوية التي انشغلت ببيع البنادول، والفوط
الصحية الفخمة للنساء، وببيع أدوية الأنسولين المربحة، وبتصنيع وتجويد المنشطات
الجنسية أصبحت تلهث خلفَ مصلٍ يوقف انتشار هذا الوباء العشوائي، الذي يُهلك أحدا،
ويمر على أحدٍ آخر بلطف، لا يوجد شيء منظّم في هذا الدرس الكبير سوى أننا يوما ما
"قد" نتذكره بالكثير من الذعر والقلق من الطبيعة التي حاولت هذه المرّة
أن تغير دفة كوكب الإنسان، لم تغرق السفينة لكنها توقفت طويلا في عرض المحيط حتى
أصيب ركابها بسرطانٍ من الضجر وقضوا كوابيس الملل والترقب متربصين بنهاية عام الفيروس
الذي حل على ذاكرتنا بوحشية وشراسة. بعد انقضاء هذا العام سيولد أطفالٌ لن يعلموا
عن عام "الكورونا" وسيتساءلون بجدية ولطف عن السبب الذي جعل كوكبا كاملا
يقدّس معقمات اليد، والكمامات، والقفازات، ولربما يتساءل بعضهم بعد أن يشب عن
الطوق عن كل ذلك التاريخ المرئي والمكتوب للكائنات البشرية وهي تتحسر على
اقتصادها، وأجهزتها الصحية، وأيامها التي ضُربت في عمودها الفقري بتوقف المصانع،
وبالإجازات القسرية. سنعود يوما ما إلى سابق عهدنا، وستفتح المصانع، وستتناقل رؤوس
الأموال ما بين شركات الترفيه إلى شركات السفر والسياحة، ستزيد رحلات الطائرات
وستتضخم أرصدة الحانات ومدن العطل الشهيرة، أما أنا فسأبقى في حيرتي وحسرتي على عامي
الثالث مع الدراجة التي أصيبت بفيروس كورونا وهي المعدنية التي بلا عروق، ماذا
فعلت بنا يا عام 2020؟
معاوية الرواحي
سمائل/ يوليو/ 2020