ذلك الهدوء، مجددا! هدوء الجبل الأخضر الذي يجعل الأفكار واضحةً. أشعر بهدوء نفسي شامل، هذا الهواء البارد النقي، والأشجار التي قضت بعضها أعماراً تفوق عُمري. أتأمل الشجرة التي بجانبي، وأتخيل! كم أربعيناً من الأعمار قد مرت عليها! لغتي تغيرت، اتجاهها تغير، اهتمامي بالعالم تغير، لماذا؟ لأنني في قلب الطبيعة؟ أم لأنني خارج مكائد المدن، وضيق النفوس الذي أصبح السمة الغالبة عليها!
ما الذي سيحدث لي إن عدت لمسقط؟ كم يوماً سأصبر قبل أن أعود إلى سابق عهدي، قلقاً، أدخل تويتر لأنني متوتر، أكتب لأنني مضغوط نفسيا، أتفاعل مع الناس لأنني أبحث عن جدال. لا أشعر بأهمية كل ذلك الذي كنت أكتبه، وأنشره! ما الذي حدث لي؟ حدثت الطبيعة، حدثت الحياة، بحقيقتها!
نعيش في هذا الكوكب المدني ونحن نصنع المعايير والمقاييس. نرهق أنفسنا بشروط النجاح، نظنُّ أن ما نفعله في غابات الإسمنت هو ما يمثل حقيقتنا. وماذا بعدها؟ بعد أن نرهق الحياة بالغياب، نجمع من حطام المال ما يجعلنا أقرب لحياة طبيعية، الإنسان الذي يملك قاربا ويعيش بجانب شاطئ البحر، مقابل الذي يبني قصرا صيفيا ليخرج في يختِه ثلاث مرات في العام! من الذي يجيد الحياة؟ لا يبدو لي أن المعايير المدنية والأوهام الرأسمالية قد أصابت، المصيب حقاً هو ذلك الذي تمسَّك بالحياة في بقعة جغرافية مثل هذا الجبل، أو ذلك الشاطئ، أو تلك الرمال، هؤلاء حقا أجادوا فنَّ الحياة!
أشعر الآن، فقط في هذه اللحظة، أنني كغيري، غارق في ملاحقة الأوهام الكبيرة! أريد أن أصبح غنيا، أريد أن أؤسس مشروعي التجاري، أريد أن أحقق صفقات وعقودا كبيرة، لأفعل ماذا بالضبط؟ لأفعل ما يمكنني فعله ببضعة آلاف من الريالات! بسيارة متواضعة، بعدة تخييم، بعزلة أملك فيها ثروة الوقت! ليت الحياة تسمح لنا بأن نعيش هذه البساطة دون أن تلاحقنا معايير المدنية المفتعلة! كنا بخير، كنا طبيعيين، ثمَّ اكفهر المشهد النفسي، وتغلغلت أمراض المدنية في عقولنا، والآن! نهرب إلى الطبيعة مرةً مرتين كل شهر! حقا أجرمنا في حق أنفسنا، وتقبلنا مشيئة الطاعون الإسمنتي، وسمحنا له أن يسيطر علينا!
أعيد مراجعة كل الانتماءات الرومانسية التي كنت أعجنها في ذهني. لقد فات أوان أن أصبح إنسانا فطريا، سنواتٌ منذ انفصلت عن منزل الطيني الذي فتحت عيني على الحياة فيه، تلك النخيل، وتلك المجازة التي تقدم أفخم استحمام باردٍ في الكون! يا إلهي، أي حياة جميلة كانت! ثروة الوقت، والماء، والخضرة!!!! وماذا نلاحق الآن في المدنية اللعينة! نلاحق المال لكي نشتري بعض الوقت مع الطبيعة! مأساة حقيقية! مأساة!
عشت سبعة أشهر في النيبال، الجبل الأخضر يذكرني بتلك الحياة التي تمنيت لو لم تتوقف! ليت النيبال كانت تسمح بالإقامة المستمرة، كنت أملك معملا لصناعة الشموع، ولولا قوانين الإقامة والهجرة لما اضطررت حتى للرحيل إلى بلادٍ أخرى، راحلا من الجنة إلى قلب المدنيات الرأسمالية! ومجدداً أشعر بالخسارة، أشعر بالخسارة لأنني لست في مزرعة في سمائل، لست أزرع ما آكله، لست أربي ما آكل لحمه، قليل من الطيور، كثير منها يُباع، وبعضه يؤكل، لماذا لست في هذه الحياة لا أعلم!
من سيدفع أقساط السيارة، ورهن المنزل، وتكاليف فاتورة الهاتف! ولماذا كل هذا مهم من الأساس! لا أعرف، ما أهمية هذا الحطام الذي ندفع أعمارنا في ملاحقته، في هذه اللحظة، حقا لا أعرف! محظوظ الذي عرف حقيقة الحياة مبكراً، محظوظ حقا هذا الذي يرحل إلى المدينة قليلا من الوقت قبل أن يعود إلى كل هذا الحقيقي، والناصع في صفائه، الوجود الفطري بكل ما معه من أرواح متخمة بالكرم والطيبة، والحذر والانتباه، والقلق اليومي المعتق بالعفوية والاتكال على الله! كل هذا الجمال لم يفسده سوى الإسمنت، وشبكات الكهرباء، والهرب الدائم من حقيقة ما يجب أن نعيشه أجمعين!
في هذه اللحظة، والمشاكيك تطلق روائحها العذبة، والأصدقاء يسمرون، والمخيمات الجانبية تطلق الضحكات، كل إنسان طبيعي، خارج فتنة المدن والإسمنت، كُل إنسان يعيش جمال هذه اللحظة، وأنا أيضا، كل ما أحتاجه من حطام الدنيا هو هذا الحاسب الآلي، وذلك الهاتف، ولا أريد شيئا أكثر، أريد البقاء هنا، أنكفئ على الكتابة، لعلي أكتب روايتي الحلم، أو سيرتي الذاتية، لعلي أجد الحرية ذات يوم في قلب هذه الأحجار الشامخة!
في هذه اللحظة، كل شيء طبيعي، كل شيء بخير، وأنا هو أنا، دون ضباب المدنية، وضبخانها الفكري واليومي، وأصوات السيارات، والشتائم التي نطلقها بلا وعي كل كل منافسٍ لنا في تلك الغابة التي صنع الإسمنت مشيئتها الجافة والصارمة!
معاوية الرواحي