هل هو "هذا الليل لي" ليل هلال الحجري، الذي استحوذ عليه؟ أم هو "كل هذا الليل لي" ومحمود درويش الذي يصرخُ في فضاء الناس عن خلوه من البشر، أم هي ليلة أم كلثوم، التي تشير لها وكأنه ليست بها!
أي ليل هذا! صوت عبد الحليم حافظ، عزير يغني، عبد المجيد عبد الله، ثم فيفالدي، ثم مايك بوزنر يحاول إبهار أفيتشي، والذي، وياللمفارقة! مات في عُمان! وكأنه يجب أن يبذر ما تبقى من روحه في حناجر أصدقائه!
ليل الجبل الأخضر، الهادئ، أنيق الظلماء، لطيف الأضواء، لم تكن السماء شحيحة بنجومها، ولم تستنكف المدينة أن تطلق العنان لعشوائية أضوائها، وكأنها تتحدى السماء، تقمع النجوم فلا يبقى منها سوى تلك التي اخترقت الزمن، بعضها مات، وبعضها في طريقه للموت، مليارات الأجرام، والعدم البعيد، وأسئلة الإنسان عن هذا الكون الغامض!
أستطيع بسط أفكاري على فراشٍ وثير، أستلقي عليه غير عابئ بهذه الحشرات التي تتجمع على شاشة حاسبي الآلي. ألفةٌ مع الحياة، مع آلامي، مع أحلامي، مع كل ما هو تعاسة في الماضي، وكل ما هو سعادة في اللحظة، لست آسفا على الماضي، لست خائفا من المستقبل، أنا في اللحظة، أنتمي لها، أسكن فيها، وهذه اللحظة ملك الجبل الأخضر الذي غرس بذورَ الوضوح في حروفي وكلماتي!
أنا أكتب! نعم! أكتب، وحولي الأصدقاء والأغنيات، أكتب غير عابئ بالحشرات، أكتب غير عابئ بكل فصول حياتي، وبكل اللعنات التي شكَّلتني، أكتبُ، وأشعر أنني إنسان! أكتب! ولست خائفا على بطارية لوحة المفاتيح، ولا على هذه الصفحة البيضاء، أنا أكتب! وأشعر بالحياة، وأظنُّ أنني وجدت ورقة بيضاء جديدة، تصنعها السماء والجبال، وهذا الهواء البارد الذي عزَّ عن عشاقه، وبان عن مشتاقه!
أهذه هي حقا روح الخلوة! أهكذا كتب الشعراء وحشتهم وغيابهم؟ ماذا نفعل حقا في تلك المدن التعيسة؟ نتقاتل على مسارات الشوارع، نختنق، آمالنا حجارة تثقل أكتافنا، وأحلامنا جبال تهدم إحساسنا بالحياة، أليست هذه الحياة؟ هذه اللحظة الهاربة من وضوح المدينة، هذا المجهولُ صادق، هذا الظلام ناطق، هذه الضحكات حقيقة، هذا السمرُ!!! صانع الذكريات، مانح اللغة انطلاقها إلى فكرةٍ واضحة، بديهية، مذهلة في بساطتها، بسيطة في إذهالها، ما هذه الروح؟
أتساءَل عن هذه الصخور وما شهدت عليه! ماذا فعل أولئك السحيقون في تراب الأرض في هذا المكان! هل مرَّ عاشقٌ حزينٌ وبكى حبيبته البعيدة؟ أم هربت من أغلال العالم حبيبةٌ يائسة تحولت دموعها إلى أشجارٍ تشهد على بؤس الزمان، وحزن الإنسان! هل تشهد هذه الصخور عليَّ، ما يشهد هذا الجبل على مرورنا البشري القصير؟
بم سأفكر عندما أعود إلى لحظتي! وإلى هذه الخلوة! هل سأنجذب مجددا إلى نداء الكتابة؟ أم أكتفي، وأنهالُ على المكان كما انهالت تضاريسه على مشاعري وأفكاري! هذه النجوم، والموسيقى، والأصدقاء، وشبه الظلام، وشبه الضوء، وهذا التمازج المتناغم، النسمات الباردة، والضحكات المتداخلة مع صوت المتأملين! نقرات لوحة المفاتيح وهي تخترق أستار الصمت بين أغنية وأخرى!
أنا حقا في هذه اللحظة، أصابعي تنطلق وكأنها تكتب خارج إرادتي، أعود إلى ذلك الكاتب الذي اشتقت له كثيرا! ينشقُّ من قلب الصخور غائبٌ من المعنى، غائبا عن الوجود المادي، غارقاً في هذه اللحظة، الأغنية تتغير، نقرات لوحة المفاتيح تتصاعد، الأغنية الجديدة تبدأ، وينطلق الأصدقاء في أسمارهم، اللحظة برعاية السماء، والجبال، والظلام الشاحب، والنجوم المتلألئة. إنه الشفاء الحاسم، والوضوح الصديق، مع الصديق الواضح، حيث لا نار تشتعل في الأرض، ولا جمرة تحترق في الفؤاد.
هُنا، يبدأ الكلام، ويصمت، وتترك اللحظة آثارها على رمل الأرض، وترحل عن الحياة لكنها ستبقى في وجدانك، ساطعة، حقيقية، صنعها الأصدقاء، والمكان، والله الذي يرحم عباده بالمهارب والملاذات حتى عندما ظنوا أنه أحيط بهم! هذا الكوكب المادي خاسر لا محالة! خاسر عندما ترى بقلبك لحظة مثل هذه! تعود منها عارفاً، ولا تحتاج لأكثر من ذلك لتكمل الحياة بصبر، وتقبل تام!
معاوية الرواحي