الكاتب الحقيقي، موجود في سطوره، في عقول وقلوب قرائه، كاتب لا يموت، ترك أثره، وكتب، أما وجهه الخارجي فهي ليست أكثر من أسمال بشرية بالية مصنوعة من الطين تهيم على وجهها في الأرض. الوجود الحقيقي للكاتب هُناك فيما كتب، أما باقي الشكليات المادية هذه فليست أكثر من كائنات من لحم ودم تحاول الحياة. هذا هو الفهم الناقص الذي يجعل الكثيرين ينسون أن القارئ يصنع الكاتب، وهو الذي يدفعه للاستمرار، وهذا الانغراس التاريخي في الذاكرة العامة (بجودته أو برداءته) هو حقيقة وجوده الجوهرية.
الغارقون في تقديس الإناء. الكتاب المجلد الأنيق، أو المحافل الثقافية الباهرة، هل هذه حقيقة الثقافة؟
حقيقتها هي ورطتك في الحياة، ولعنتك مع ما رميته من تفاعلات نصيّة أمام وجه العالم.
أن تكون (شخصيةً) مثقفةً، هذا دور مهني بحت، ليس سيئا، ليس خطأ، بل هو جزء من كونك تحترم السياق المهني للمجال الثقافي.
لكن أن تصول وتجول في حقول الثقافة، وأنت لا تكتب! لا ترسم! لا تعزف! أن تصول وتجول في عالمها وأنت لا تكتب هُنا السؤال!
الإناء ليس مهما، أين تقول شعرك ليس مهما، هذه اعتبارات غير موضوعية، المهم إنك تكتب، وما تتركه، وما يترسخ عبر السنوات بينك وبين قارئك هو الذي يصنع وجودك الذي بعده لا يعود وجودك المادي مهما!
الإنسان الذي من لحم، ودم، يبحث عن الرزق، ويمر بالإفلاس، والمرض، ويخاصم، ويصادق، ويحب، ويكره، هذا وجوده الجانبي، الهامشي، أما وجوده الحقيقي فهو حيث كتب، وما بقي، وما ترك أثرا، وما صنع هويته الغامضة في عالم المعنى الذي لا يملك مقاليده أحد.
أن تكتب، يعني أن تكتب، تستمر في الكتابة، لا تتوقف، فهي ليست موهبة، وليست هبة، وليست هدية من السماء، وليست اعتبارا أو مكانة، هي تراكم طويل المدى، يترسب مفعوله الجيد أو السيء مع الوقت.
أمَّا مرور عشر سنوات منذ آخر مقال أو قصيدة، والحياة على الرخصة الثقافية التي تتأتى من المحافل الاجتماعية، هُنا ثمة علامة استفهام تُطرح، وفي النهاية، كل إنسان بينه وبين قارئه ما بينه وبين قارئه، (سر المهنة) الذي لا كاتب في هذا الكون سيجرؤ على أن يبوح به.
القارئ معلم، صديق، خصم، عدو، أخ، عائلة، وطن، مجتمع، سجن، حرية، حقائق بعدد أنفس الخلائق. ويكفيك عندما تلقى قارئك الحقيقي أن تقف متواضعا أمامه، فهو الذي يعرف كل نسخك التي نسيتها، ويذكرك جيدا، والقارئ الذي يذْكرك، هو القارئ الذي يُذَكِّرك، ولذلك، كاتب دون أن يكتب ليس أكثر من إنسان يقاوم الموت. وقد يموت وهو على قيد الحياة!
أي موت شنيع هذا عندما تفقد قدرتك على الكتابة!