بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 25 يوليو 2025

على وشك رحيل ما!

 مرَّت ثلاثُ سنوات من الدراسة. تخصص علم النفس الذي حلمتُ به سنوات وسنوات ولم يكن متاحاً. والآن أمامي فصلان دراسيان، وأصبح (منهم!) مَن هُم؟ من الراحلين من قسم علم النفس الشاسع، الواسع، المليء بالتجارب والنقاشات.

الراحلون الكبار من هذا القسم، ونخبة العقول المبشرة بالخير. في كل فصل يتخرج هؤلاء الذين تركوا أثرا ذهبيا في عقولنا، عبر النقاشات الطويلة في هذا التخصص العجائبي. أن تدرس علم النفس، ولكي لا تكون دخيلا يراجعُ المعلومات والمعارف ويظن أن ذلك يكفي! قطعا لا يكفي، علم النفس حقل، له مظلة، وأدبيات، وأخلاقيات تتعلم مع الوقت صعوبتها. والتجربة الدراسية داخل الفصول شيء، وذلك التداول الحُر للأفكار شيء آخر. 

(Psychology code)

شيء من أشياء الدراسة في هذا التخصص العجيب! أن تكون طالب علم نفس، أنت في حلفٍ دائم مع كل الذين يدرسون معك! حالة تعلّم لا يتوقف. الأشياء النادرة في الحياة، تلك التي يسقط فيها الإيجو، وتتراجع فيها الأحكام شيء شائع في هذا القسم العذب. بكل ما فيه من تطهير أخلاقي دائم، ومقاومة لنزعات في النفس البشرية تُرهق الإنسان بمشاعر الحسد والتنافسية، في قسم علم النفس أشياء كثيرة. 

الأولى على الدفعة تبذل الوقت والجهد لكي تنقذ زميلها الثاني على الدفعة لينجو معدله من صدمةٍ في مادةٍ إشكالية. الطالب الذي يتبرع بالشرح لجميع الطلاب في أي وقت، وفي أي زمان، وفي أي مكان. الروح المفعمة بالسعي للفهم، إن كنت من هواة إطلاق الأحكام، وتأطير البشر، واعتبار أن مشاكلهم هي ذواتهم، ستأخذ وقتك حتى يسبغ علم النفس عليك خصالا جديدة. طلابٌ كثر يبقون في الذاكرة. صالح الإسماعيلي، هذا المُسرع في التخرج، الذي وفّر على نفسه عاما ونصف العام في مسيرة أكاديمية مليئة بالضغط الدراسي. 

عدوية الحراصية، من ذلك الفريق النادر في قسم علم النفس الذين جمعوا تخصص التمريض بكل أخلاقياته والتزامه وأضافوا إلى مسارهم المهني هذا التخصص. ولا أنسى طبعا، الراحلة قريبا، التي نسميها أجمعين بالطالبة الجليلة، تلك الإنسانة المخلصة، المؤمنة بهذا التخصص. 

يرحلون، ويغادرون من هذه الرحلة إلى رحلةٍ أخرى في هذه الحياة. مرَّت ثلاث سنوات منذ أن بدأت الدراسة، والآن، الوقت الذي كنت أتمنى أن يمرَّ سريعا ينتقل إلى حالةٍ مختلفةٍ من النسبية. زملاء، وزملاء يرحلون، والأسماء في لوحة الشرف تحل محلَّها أسماء جديدة، وكبارٌ جدد للقسم، يصنعون تأثيرهم ويتركون أثرهم. لهذا التخصص اختلافه الجوهري عن الكثير من الأشياء، تخصص النطق عن المسكوت عنه، والسعي الدائم للتعاطف، واعتبار أن المشكلة هي مشروع حل، وليست مشروع حكم. 


لا أبالغ إن قلت أن أبرز الطلاب في هذا التخصص هم الذين جاؤوا إليه من تخصص التمريض، جاهزين أخلاقيا للمسؤولية، وعاشوا التجربة الحقيقية في ساحات الموت والحياة. لطالما أبهرني هؤلاء الذين جمعوا بين التخصصين، ولطالما شعرت بالأمل الشديد حيالهم. كل يوم تتعلم شيئا جديدا، وكل يوم تعرف أشياء أخرى. 


الرحيل يقترب كل يوم، وبعد هذه الإجازة القصيرة، أخطو إلى زحام سنة التخرج، ولعل اليوم الذي أظنه الآن يحمل صفة (عام) سيمر خاطفاً. وكما مرَّت ثلاث سنوات، ستجدون هذا الطالب الذي يكتب كثيرا عن دراسته وقد توقف عن الكتابة عنها!  ليصبح أحد هؤلاء الذين رحلوا وتخرجوا. 


بعد قرار عودتي لعُمان، التخصصِ، ودراسة علم النفس كان بلا شك من أعظم القرارات التي اتخذتها في حياتي. سنوات متتالية، من الخسارات المالية الموجعة في مهنتي التي تعتمد على التفرغ التام، ومن منصات المهنة هذه التي تحتاج إلى أحد يواظب على إحيائها، ومن الانشغال عن الرياضة، وبكل ما حدث في هذه السنوات من صدمات، ومن آلام. ومن نهايات سعيدة تمثّلت في وصول ابني المُلهم الذي أتمنى أن يكون معي في حفل التخرج، وسيكون عمره عام ونصف!


أن تدرس وأنت في الأربعين، لم أكن أعرف أنَّها تجربة ثمينة. مع تخصص مثل علم النفس أنت لا تبدأ من الصفر، تحمل معك خبرتك السابقة، تمنحها أسماء الصفات، وتسمي كل شيء باسمه، وتأخذ معك هذه المهارات والمعارف إلى حياةٍ قادمةٍ تتمنى أن تكون نافعةً وجميلة.


مرَّ الوقت، وهذه سنة الحياة، والذين يغادرون اليوم، سنكون منهم غدا، تحية لكل الرفاق العظماء الذين سيغادرون متخرجين بعد هذا الفصل الدراسي، وتحية لنا ونحن نخطو خطواتنا الأخيرة كطلاب، ونبدأ غدا رحلة المتخصص، وطريق جديد للبحث عن المعنى في هذه الحياة الغامضة غموض الشمس، والواضحة وضوح الظل.