بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 5 مايو 2020

مصائد/ ومهالك




وماذا كنتُ أحسبُ من طريقٍ لا يسلكه غير الضائعين، الذين ضاقت بهم السبل وتقطعت بهم الآمال؟ توخيّتُ غايةً كُبرى وضعتُ في مهالكِها ولم يعد لديّ ما أطمح له أو ما تتوق نفسي إليه.
أخاف من الطمع والتكبر، وأخشى على نفسي من لعنة الزهو، أغالب شيطانا كؤودا، إن صرعتُه زمنا صرعني دهرا، يستبد بي الشوق حتى أجنَّ، يصرعني الحنين، يباغتني كل ذلك الذي فاتَني لحظة حدوثه، يشغلني عن كل شيء حولي هذا الأمل القتّال أن كل شيء سيكون بخير، لن أكون بخير، ولن أعيش بخير، أدركتُ هذا منذ البداية، عندما شاءت اللحظة الأولى أن تطلق كل الشياطين من حبالِها، لا أتحدث عن الوطن وإنما عن الحياة، وعن هذا الصراع المرير الذي لا نهاية له سوى الموت.
المصائد لا تتوقف، جاهزة على جانب الطريق مجهّزة للحمقى والضائعين الذين لا يعرفون أنفسهم. المهالك في الهواء والماء والسماء والأرض، تفتك بغواصٍ ينقذ تائهين في مغارة، وتسفك دماء واهمٍ مسكين ظن بالأسود والضباع خيرا. الحياة طريق مرير يسكنه الضياع وتظلله الوحشة، يبدأ بالأمل وينتهي بالموت ولا يمكن تغيير هذه الحقيقة مهما حاولت نفسك أن تغيرها.
ماذا عساي أقوله لمن يحبني؟ ماذا عساي أن أقول لمن أحبه؟ أنني لا أعرف الذي أريدُه في هذه الحياة؟ أشتاق أيامي الأولى، أيام الجدال الصعب والمعركة المريرة داخل عُمان، أشتاقُ أيام الشجاعة العمياء والكر الأهوج. تلسعني الحياة فأعود إلى قوقعتي أشفى بصعوبة وأعود إلى ساحة المعركة شبه ميّت، أفكر بالموت كثيرا وأفكر بالحياة أكثر. أشعر بضياعٍ هائلٍ، وأخاف على نفسي من الطمع والجزع، أخاف على نفسي من الكسل، أخاف الخطايا السبع وما فسّرها من قرآن وبيان، أخاف من ذاكرتي، والماضي، والأصحاب، والتناقضات المريرة التي يسبغها الواقع على البصائر، أخاف وأخاف ولا أجد طريقاً أسلكه ولا رفيقا أثق به ولا مسارا أطمئن له.
أصبحتُ مؤمنا، عرفت ذلك عندما سلمت بقضاء الله وقدره، لم أعد أعبأ بما يمكن لإنسان أن يفعله بي. الإيمان مطمئنٌ كبير، ليس أفيونا كما يحب الشيوعيون وصفه، إنه أكبر من ذلك، إنه حالة من الرضا التامة والتسليم التام بضعفك البشري وبقلة حيلتك أمام تغوّل الإنسان، تغوّل ذاته ونفسه. لم أعد أعبأ بشيء، لا أريد شيئا، سئمت من الهرب وتعبت من الضياع وأشعر أنني جاهز للعودة لمعركتي السابقة، مع نفسي، ومع ذاتي، ومع روحي المتكسرة التي أرهقها زجاج الماضي الحاد وعلمتها السنوات فضائل الصبر، والحذر. آمنت بالله لأن الله حقيقة دامغة، ليت الذين قصروا في جنب الله يفهمون الغشاوة التي على عيونِهم، ليت هؤلاء يفهمون أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله، ليت قومي يعلمون.
الهزيمة أن تتوقف عن البقاء. جزء من التسليم بالكسل. أن تفهم نواياك فقد حزت نصف الحياة. ها أنت تعود للكتابة كسيرا وأسيرا، هارباً، لذة العراك في ميدانِه قد فاتتك وإن أدركتها فإلى الخوف والريبة، هذا إن كنت محظوظا فقط، أما المهالك الجاهزة فهي مرصعة بأطماعك، وربما رغباتك في الاستسلام، والانهزام، والانضمام للعدو، والاستسلام الكلي.
اكتب أكثر أيها الشاعر الضائع، لن تجد البصيرة خارج الحروف، أما النفس فهي شيطان عقور، فاحذرها، تذكر هذه النصيحة وأنت تكمل أيامك الهاربة، ولا تحزن، فربما كتب الله لك عودةً جميلة إلى الساحة الأصعب والطريقة التي بدأت بوضع سننها قبل أن تطيش ويطيش معك القلم والميزان. لا تيأس من رحمة الله، هو حسبك، هو ناصرك، هو الذي سينقذك من شياطينك الداخلية، وهو الذي سيكف شر الثعابين و الضباع عنك، ثق بالله، لا تثق بغيره، ثق بحكمته، تقبل أخطاءك ولعناتك، تقبل نقصك وتزعزعك، تقبل تذبذبك بين الحق والباطل، تقبل أنك ستعاني من الطمع، والزهو، وربما يأخذك العجب بالنفس فتذهب إلى مهالكها، الشيطان هو الإنسان أولا، وإن كان شيطان الطبيعة أو الكون يلعب، فاحذر أن تكون معه.
أنت خائف، وغاضب، مكسور وحاد، مقاتل لا سلاح له سوى صدقه مع نفسه، أنت أعلم بنفسك من كل إنسان آخر، لا توقف معركتك ضدها ولا تسلّم مبكرا، إن لله في خلقه شؤونا أنت وغيرك من البشر لا نصيب لهم منها سوى الحكمة المتأخرة، والبصيرة المروعة، والحقيقة المراوغة التي تتراقص أمام عينيك قبل أن تهتز صفحة المياه ويطيش عنك الفارق بين القطرة والمحيط. اكتب، وتجنب شياطين النفس، اكتب، وتعلم مراوغتها، اكتب وجد القوة منها، اكتب لأن هذا حقك أولا وأخيرا، اكتب لأنك تكتب، ولا تكتب لأي سبب آخر. تقبل عودتك الشاحبة للكتابة كما لو كنت تبدأ من جديد، لا تحزن لذلك، الحياة بدايات مستمرة ونهاية واحدة وإياك أن تنسى ذلك في خضم هلعك وخوفك الدائم من الحياة، ومن نفسك الأمارة بالسوء.


يوميات النكسة رقم 1
برمنجهام
الخامس من مايو 2020