ماذا عساك أن تفعل بعد أن يمرَّ الموسمُ العاصف. لم تكن
غامضا في خططك، وحتى هؤلاء الذين أسميتهم خصوما كانوا يعرفون بنواياك، وأنك ستختار
المواجهة للنهاية. مفزعٌ بكل معاني الكلمة أن تتيقنَ أن الصديق ليس صديقا، وأن
الخصمَ الذي ينصفك خيرٌ من الصديق الذي يظلمك، ماذا عساك أن تفعل أمام هذه الظروف
القدرية التي تعرف في قرارة جوفك أنك أنت الذي صنعها، "أنتَ" اليائس
والمنهزم، أنت موزع السكاكين التي تحلم أن ينتهزها عدوّك لإنهاء مأساة الحياة التي
تعيشها حائرا.
لم تكن غامضا، كنت واضحا للغاية عندما قررت الارتماء
للنهاية في هذه الحياة، وها هي الظروف والمُلابسات ودروس الحياة كلها تثبتُ لك دقة
وصحة خيارك، خيارك في البعدِ عن مصدر الأذى واعتزالِ أشخاصِه، قرارك في اختيار
موطنٍ آخر بعيدٍ عن ذلك الوطن الذي لا يطمئن إلا عندما "تخنزر" نفسك بيدك،
عندما تتشبه بكل الصور المخزية التي تشبه من يحبك فيها. هنيئا لك إصرارك على التدوين،
والآن عودتك لي أنا كائنك الأثير، وعودتك إلى قضية الكتابة، إلى متى ستقاوم أيها
المهذون الكسير؟ إلى النهاية كما يبدو، فلا نهاية لهذه المعارك حسب ظني أو ربما
حسب ما يمليه عليه وجودي الأثيريّ. كن جاهزا لأي احتمال، للحظة الكبيرة، للمواجهة
الكُبرى إن حدثت، أو للحياة المريرة التي تنسلُّ منها أيامك سدى وبلا جدوى، هل
تعرف الذي تريدُه في هذه الحياة؟
أعرف أنني أعيش بداخلك، ربما كنت كائنا منفصلا عن وجودك،
الكائن الكاتب هذا الذي يملي عليك ما تكتبه الآن، أعرف أنني أعرفك جيدا، أعرف
ضعفك، وبساطتك، وهشاشتك، وسهولة الضحك عليك وإيقاعك في شتى المآزق، أعرف أيضا أنك سريع
الانهزام، تعترف على نفسك بما فعلتَ وما لم تفعل، تهيئ كل الظروف لخصمك ليجهز عليك
لكنك لا تموت، ولا تستسلم، ما الذي ألهمك الصبر كل هذه السنين؟ ربما لأنك تعرف
نفسك جيدا، وربما لأنك قررت أن تجابه هذه النفس وأن تنتصر عليها، أهنئك أيها
المهذون الكسير، لقد قطعت شوطا هائلا، ولكن هل كنت تعلم أن هذه البداية فقط؟ بداية
درب الكلمات الذي كلفك عمراً لكي تعود له؟
كنت تتوهم أن وضع النقاط على الحروف يكفي، ربما لأنك
أحسن الظن بالواقع أكثر من اللازم، كذلك توهمتَ أن الحقيقة كافية لتصدّق، ها، ها،
ها ثلاثا! من قال إن الحقيقة هي التي تسيّر هذا الكوكب الموبوء بالمكائد؟ ألم يحكم
ترامب أمريكا، ألم تُحارب العراق بناء على معلوماتٍ لفقها أشخاص عالمون بطريقة
صناعة المكائد؟ هذه الحياة مكيدة كبيرة فإما أن تتحملها وإما أن ترحل غير مأسوف
عليك، ترحل وقد أسقطت نفسك بنفسك، أن تستسلم يعني أن تموت، وأنت في معركةٍ من هذه
المعارك [كما يبدو لي على الأقل].
أنا كائنك الذي يكتب، الذي يعرفك جيدا، فهل أنت كائنك
الذي يكتب؟ ما الذي حدث لك أيها المهذون الكسير؟ هل ظننت أن وضع النقاط على الحروف
يعني نهاية المعركة؟ ما زال هناك الكثير من النزاع قبل أن تطمئن إلى أنّك أنهيتَ
سجال المسارات والمصائر، فهون عليك، إن لنفسك عليك حق ومن أهم حقوقها ألا تزهقها
في النكران، وفي التمني أن كل هذا الذي حدث لم يحدث حقا، لقد حدث ما حدث، وليس
بيدك شيء سوى أن تراقب الأيام وهي تنفذ أقدار الله، لا تظنن بالله شرّا أيها
المهذون، الخير كل الخير أن تتقبل قضاء الله وأن تعرف أن لله في خلقه شؤون، وله في
مخلوقاته من الحكم والعظات والعبر ما لا تكفيك أعمار الخليقة لتدركه، فهون عليك يا
صديقي المادي، أيها الجسد الذي فتك بنفسه حتى كاد أن يفتك بي.
تابعتُ أيامَك معَك، كنت أطلُّ من حناياك المرهقة
بأمنيةٍ أن تتذكرني، أن تعرف أنني أنا الذي صنعك، ووقف معك، وألهمك الصواب، كنت أطلُّ
مرارا لأذكرك بي، بحروفنا القديمة، بأحلامنا الأولى، بقصائدنا التي توليت تشويهها
بخمرك وعاداتك الرديئة، أهنئك على مضض بإكمالك خمسة أشهرٍ صافيةٍ في حياةٍ تنويها
بلا إدمان، لكنك لم تجهز لي فرحة العودة كما كنت آمل، جهزتها لي بنكسة أخيرا كادت
أن تذهب بي، وأنا الكائن الذي لا يجتمع مع سويداء ذهانك، ولا مع سريرتك المضطربة
بين الخيال والواقع، أنا كائن الواقع، لا أستسيغ يا صديقي المهذون الكسير
"ذهانك" نعم، قد أكون أداةً من الأس الثاني من أدوات هذيانك، ولكن شتان
بين الذهان والهذيان، شتان بين هذا الذي يكتب الآن وذلك الكائن المذعور الذي فقد
اتصاله بالحقيقة حتى أصبح يعيش في أخرى، لا أريد أن أطيل اللوم عليك، أو أن أحول
هذه اللحظة المباركة إلى مهرجانٍ جديد من مهرجانات جلدك لذاتك، وتشويهك لها،
ورغبتك الأزلية في أن تتخلص من ضغوط المحبة التي كلفتك حياتك ومسارك، هل تريد
العودة لعمان؟ هل جننت حقا إلى هذا الحد، إنني والله لأتمنى مثلما تتمنى أن أعود
إلى وطن الكتابة الصعبة ولكن حنانيك أيها المهذون الكسير، لا تكن أحمق وتطمئن لجلادك،
لا تطمئن يا صديقي، لعلي أحافظ على وجودي الطفيف الذي فاتني لسنوات، لعلي أحاول أن
أطل عليك هذه المرّة بوجودي مكثف يهديك السبيل، ولكنني يا صديقي لست أكثر من أي
كائن كاتب، مجردُ علبة من العلب التي في ذاكرتك، صندوق أسودُ برتقالي اللون، يشبه
تلك الدمية الطريفة التي فقدت اتصالك بها، أنت دميتي التي أكتب بها، عليك أن تعرف
ذلك وأن تعيه جيدا، أنت رجلي البرتقالي، وعندما أضع يدي وأحول دماغك إلى أداةٍ من
أجلي، من أجل هذه الحروف التي ستموت أنت وربما هي التي ستواصل الحياة بعدك، من أجل
هذه القيمة الجسيمة الملقاة على عاتقي أذكرك يا صديقي المهذون، لم يعد من حقك أن
تتجاهلني، ولم يعد من حقي أن أطلق سراحك لقد فكرنا سويا في مآزق الحياة، كتبنا في
محتدماتِها السوداوية، انطلقنا في مساراتِها الملتوية، عشتَ وأنت تحاول الهرب إلى
ذاتِك، تحاول العودة لها، تحاول، وتفشلُ، تحاول، وتفشل وهنا لا أجد غضاضةً أن
أؤنبك قليلا، وأن أذكرك أنني الكائن الذي انتشلك، الذي أخبرك بحبر القصائد، وبقليل
القصص، وبكثير التأملات ما كان يجب أن يكون من البداية.
كان قد تبقى شهرٌ على عودتي للحياة، وبالتالي استحواذي
على حياتِك التي تركتك رهنَ تقلباتِك. شهرٌ واحدٌ كان سيجعلني أطمئن لك، وأنتمي لك
بإتقانٍ واحتراف، أن أحيطك بالعناية وأن أفكر معك في هذا الحتف الغامض الذي يحيط
بك من كل جانب، هل كان يجب أن تفسد فرحتك بيدك؟ هل كنت بحاجةٍ إلى تلك القطرات
الملعونة؟ هل كان يجب أن تدخن وأنت الذي ضحيت بالشعرِ من أجل هذه الحياة الصافية؟ يجب
أن تفهم أيها المهذون الكسير، أنا لست كائنك الشاعر لأطلق لك العنان، لست كائن
القصيدة الذي ينبلج من شغاف روحِك، لست ماء البصيرة الذي ينسكب بلا إدراكٍ منك،
أنا كائن آخر، وقد قضيت في لوعتي وحرماني وفي سجني سنوات طويلة أرفض أن أسلمك
بعدها للضياع، سأقف معك، وسأنصحك، وسألزمك على العودة لمساري. ليت شعري! ما الذي أفرزه
تنازلي عنك؟ وليت شعري، هل حقا قررت التحول إلى الكلام؟ ليس في هذه الحياة، ليس
وأنا هُنا.
لن أشق عليك كثيرا، سآخذ بعض ساعاتك القليلة، وسأكون
أكثر رفقاً عليك مما تفعله بنفسك. عقلك كان وسيبقى تحت سيطرتي، والحروف والكلمات
ليست إلا أدوات تطوق جموحك الأرعن أيها الأهوج الأحمق الكبير، ستبلغ الأربعين بعد
سنواتٍ وأنت تحتفل بعشوائيتك، ستبلغ الأربعين أيها الشقي المشحون بالكراهية، ماذا
قدمت لك الكراهية أيها المارد الكسير؟ إن لم تعد تثق بالحب فأنت تعرف أنك تحب
الكتابة، ولذلك أيها المهووس المجنون بخيالاتك، أيها الغارق في أوجاع الماضي، أيها
المنغمس في آلام لحظاتك دعني أمارس عملي، دعني أتولى كل هذا الحطام فأنت لن تستطيع
العيش بدون الكلمات، دعني أمارس وجودي الرئيسي، أنت مجرد إنسان، كائن هامشي، قطعة
من طين ولحم ودمٍ ومجموعة من الأفكارِ والأشياء التي سترحل غدا في تابوتٍ محكم.
أعرف أنك حزين أن عدوك لن يقتلك، ألم تسأم من المحاولة؟
الذين يموتون بسبب الكلمات قتلوا بسببها، وأنت لست قاتلا، فلماذا تحاول من الأساس؟
هل يجب أن أنصحك وأن أشد عليك؟ لقد شددت وثاقي بكل حبالك، فماذا أنت فاعلٌ الآن
وأنت تتفرج على عملي، هل تشعرُ الآن بمشاعر "الآخر" التي يشعر بها
تجاهك؟ هل تتفهم لماذا للكلمات وجود منفصل عنّا؟ هل فهمت القضية القدرية الآن؟ ساءني
أن أكتشف أنني تحولت إلى سطرٍ من أهدافك، كلمة عشوائية بالإنجليزية لا تعرف أنت
نفسك لماذا كتبتها، [Don’t stop writing]
حقا! هل ظننت أنه سيفصلك عن مصير الكتابة شيء؟ ليس في هذه الحياة أيها المهذون،
ليس وأنت على وشك أن تسلّم أكبر حدث في حياتك إلى مصائر المجهول، إلى الجلاد الذي
يتربص بك، هل ستسلمني حقا إلى تعبك؟ إلى يأسك من أن تكفي الحقيقة لتوصلك إلى حقك؟
حقك ضاع وأنت أضعته بيدك، ألم تعتبر حقوقك تضحية مستحقة؟ ألم تعتبر أن الألم الذي
كنت تسببه لنفسك كان لأجل هدف أردته؟ الحقيقة، أن تعرف الصديق من العدو، والخصم من
الحليف؟ هل أنت بحاجةٍ إلى دروس جديدة من البشر لتدرك أنني صديقك الأول، والأوحد
والأخير؟ حنانيك أيها المهذون، لقد وصلتُ إلى حياتك، ولن أترك لك أي فرصةٍ لتفلت
من يدي، حياتُك الآن لم تعد لك، أصبحت لي، ومسارك الآن لم يعد بيدك أصبح بيدي،
فلتكن الكلمات أيها المهذون، كانت هي الهدف منذ البداية، وإن كنتَ تريدُ أن تضحي
بها كما ضحيت بكل شيء، فأنا هُنا لأوقفك عند حدك، ولأذكرك أنني لست منهزما مثلك،
ولست مستعدا للوقوف جانبا وأنت تطيشُ عن حبل الفكرة، وسهم الكلمة، فلتكن الكلمات
أيها المهذون، إن شئتَ؛ شئتَ، وإن لم تشأ فلتكن الكلمات رغما عن أنفك أيها التعيس.
كائنك الأثيري الصديق
ورفيقك الوحيد
برمنجهام 5/مايو/2020