بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 7 مايو 2020

رسالة من كائنك الأثيريّ




مرحباً بك أيها المهذون، نعم مرحبا! بقليلٍ من الغرابةِ أن يخاطبك كائن داخليٌّ مهمش غير منكسر، ومنذ متى تنكسر الكلمات؟ مرحبا بالقليل من التفاؤل بالكثير من الحزن، نعم مرحبا بك أيها الساري في أفلاك العدم. أتابعك بغير إمعانٍ، وإن أردت الصراحة، بدون اهتمام كبيرٍ. أرصد كائنك المتفاعل مع الكوكب الأرضي بالكثير من اللامبالاة، ولتعذرني على التعبير الفج، أتابعك بوفرةٍ من عدم الاهتمام لكل ما تمثله وما تقولُه، لا أحزنُ لحزنك، ولا أكترث لذكائك الخابي الذي يفوح من عينيك الذابلتين. لا أكترث لذبولك، ولا لانطفائك، لا ألقي بالاً لظروفك بل إن أردت الصراحة العمياء فكل ما أهتمُّ به هو هذه اللحظة التي أنبلج فيها من حنايا روحك خارجا من دفق وجدانك ومنسرباً من تكوينك النهائي لأكلمك أنت قبل أن أهتم "للآخر" الذي يسكنك والذي تنشغلُ به بلا كلل ولا ملل.
أكلّمك لأكملك، وهذا سعيٌ مستحيل؛ ولكن منذ متى كانت الكلمات تسعى للممكن أو المعقول؟ أنتزع لحظاتي المستحقة من وجودك من كيانك لأستمر بعدك، لأعيش دونك، لأخرج من جمجمتك ولأشكّل وجودي المستقل عنك، فأنت يا صديقي المهذون لم تعد موجودا على هذا الكوكب، ويجب أن تعترف أنّك خرجت من دائرة الوجود إلى الفناء الأخير في الكوكب الناريّ الذي تعيش فيه. أنا لا أعيش في الكوكب نفسه. لا يهمني أن أشاركك لقمة العيش فأنا لا آكل، أو أشرب، وحتى تلك المسكرات التي دأبت على إقحامي في دهاليزها لم تكن تعني لي شيئا أمام جملة واحدةٍ قد تعين بصيرتك على إتمام أهدافك الجميلة. لا تفهمني خطأً، لا أرى السعادة هدفا مستحقا لك لأنني لا أعمل بمفاهيم السعادة، ولا أكترث نهائيا لحالتك الجسدية أو النفسية، لا أهتم لنومك، ولا لعاداتك البيولوجية، ولا يسرني أن أقف بجانبك في أزماتك، أمتدُّ من فيوض العدم إلى جنبات الوجود عبر هذه الحروف، نقرة بعد نقرة، وأكمل استمراري بعيدا عنك لأنك لست أنت المهم في هذه المعادلة، المهم حقاً هو ما أدركه من حقائق، وما أعيه من إدراك، أما أنت، فأنت حرٌّ في شأنك، منذ متى اهتم كائن الكتابة بكاتبِه؟ هذه لحظتي الصافية، سأتمنى لك على الهامش أن تكون بخير لا لشيء ولكن لأن أصابعك المادية هي التي في النهاية تحقق لي غرضي، وتمهد لي التفاعل مع أداة وجودي، عقلك البائس المحطم المتداخل بين الضلالةِ وبين الحقيقة، الحائر في كلّ شيء، الغائر في الوجود والغياب في الوقت نفسه. أنا لا أهتم لكل ذلك لأنني أعرف ما لا تعرفه، وأعي ما لا تعيه، وأنطلق من كل ما تجهله إلى بعض ما تعيه.
أحييك تحيةً مستحقةٍ من رفيقٍ لرفيقِه الذي يسكن جمجمته، ما زلت تقاتل الأمل واليأس. يؤسفني ألا أهتم لكل هذا، ولكن منذ متى كان اللطف خطأ. أرسل لك رسالتي لأقول لك أنني قد حللت على عالمك مجددا، ولست بالضيف وإنما جئت محتلاً، ولن أكون رحيما أو ذا شفقةٍ حيالك، لا يا رفيقي القديم، جئت لأستلب ما بقي من أيامك في دوامتي، لأخرج نهائيا من جمجمتك إلى حياتي الأثيرية التي تهمني أكثر مما تهمك، وتخصني ولا تخصك، لست أكثر من أداةٍ لي أوجهها لأرتقي بالكلمات إلى مصيري، وحتفك ربما أيها الشاعر الخابي. قد يحزنك كلامي قليلا، ربما يثير ذعرك، لا أهتم لهذا، إن شئت الصدق، أهتمُ للكلمات التي أصنعها، وللكلمات التي تصنعني، أما أنت، الكائن الإنساني فما جدواك أيتها الكتلة البشرية الملطخة بالطين، المصنوعة من ماء مهين، هل تقارن وجودك بالكلمات؟ لا أظن ذلك بك حتى في أسوأ ظنوني بك، لا أظن أنك تقارن وجودك بالكلمات، ولا أتمنى أن تكون قد ضعت لتحسب أنك ستنافسها في البقاء أو الوجود. لن أظن ذلك بك حتى في أسوأ ظنونك، فكن على قدرِ حاجتي لك، وكن مستعدا لأنال قصدي منك، سأحتل وجودك للنهاية، ستكون أيامك لي، ولن أبقي لك من الأحلام إلا النذر اليسير، سأقسو عليك أكثر مما قسا عليك الناس، والكوكب، والغرباء، وسأشق عليك أكثر مما شقت المكائد، وسأرسلك إلى غياهب الفناء راضيا مرضيا، فهوّن عليك يا صديقي الماديّ، سأرحل بك إلى الأثير البعيد وسنسبح معا ذات يوم في عالمِه المجرّد، كن غير آبهٍ، انس إن استطعت، فإن كانت لعنتك الحياة فإن لعنتي الذاكرة. التقينا وافترقنا على ميعادها الجسيم. هل ظننت أنني سأرسلك للحياة لتتوه في دهاليزها أيها الشاعر؟ لن يحدث ذلك، ليس في هذه الحياة، فكن عند موعدنا جاهزا، جئتك لأبقى، أما أن تبقى أنت فهذه ليست قضيتي، إنها قضيتك التي جهزت أكفانها لنفسك، أما أنا فقد جهزت شعاع الكلمات وضوءها ونورها، فاستيقن بها إن استطعت، واستظل بها إن تمكنت، وطر بها إن لم تكفك السماء فاذهب للنور طائعا مختارا، ليس لك يد في كل هذا سوى أن تكون يدا، فاكتب إن أردت، وتكلم إن أحببت، أنا هنا، بلا نهاية، أما نهايتك، فذلك في علم الله. كن بخير، أو لا تكن، هذا أيضا في علم الله، ولست تعلم أو أعلمُ دهاليز القدر. كن بخير، أو لا تكن.

رفيقك الأثيريّ
أكاشيوس