كيف بدأت الحكاية؟ كعادة الذكريات الجميلة، بدأت بصدفةٍ غير مُخططة. عادل الكاسبي! قبل السرد دعوني أخبركم قليلا عن عادل. إنَّه صديق، وأعتزُّ بصداقته وهذه الكلمة لم تأت من فراغ، لقد مررنا باختبار الصداقات الصعب، وكان أن ظلمتُه يوما ما بسوء ظنٍّ منّي، وكدنا نفترق.
لم يحدث الفراق الكبير كما كنت أظنُّ. تعامل عادل بحلم وعندما عدتُ له معتذرا اكتشفت أنَّه وضع ألف عذر لي، ولم يكن بحاجةٍ لما بعد الألف من الأعذار، عُدنا لهذه الصداقة، رغم اختلافنا الفكري اتفقنا على شيء، أنَّ الصداقة كنز ثمين يستحق أن نحافظ عليه، على هذا اتفقنا، وعلى هذا نمضي.
وكيف بدأت حكاية الانتصار هذه؟ بتغريدة من هذا الصديق المشاكس المشاغب، يريد أن يتحدى [المهذون] هكذا قالها! حاف، دون لفظة [الأكبر] التي استمرأ أن يتجاهلها، عدائية شطرنجيَّة تعني الكثير: هذا الشخص ليس مبتدئا، وإنَّه يعلمُ أنَّ معركةً ستحدث، وتحديا سيكون، ووافقتُ، وبعدها بدأت الحكاية.
تويتر الذي اعتادَ أن يفرَّق جمعَ هذه المرَّة. رئيس اللجنة العُمانية للشطرنج يحيي هذه المباراة بين اثنين من المبتدئين ذوي الغشامة الشطرنجية البيَّنة. ثم تأتي المفاجأة، مدرِّب المنتخب العماني للشطرنج سيحضر المباراة! أي ربكة هذه! ألا يكفي عادل وحماسته! الضغط يصل لأقصاه!
وتأتي الدعوة الكريمة، مقهى @solocafe_om يقدم الدعوة للمتحاربين لتكون أرض المعركة في الخوض العظيمة! كنت متوترا بمعنى الكلمة! هذا المتحدي الصديق الذي بالغَ في عدائيته الشطرنجية حد مخاطبتي بلقب [المهذون] حاف! متجاهلا السنوات التي قضيتها لما بعده من صفة! خصم جديد! لا أعرف طرقه وحيله!
اكتملت أركان حكاية من حكايات الذاكرة. اللجنة العُمانية للشطرنج تحتفي بالمباراة، يا إلهي! أي لطفٍ يبدونه لبغمان الشطرنج! مبتدئين تُزكم أخطاؤهم أنوف اللاعبين الكبار. وصلتُ للمقهى، اتصلت بعادل ثلاث مرات ولم يرد. كنت أتصل بشخص آخر سجلت اسمه بالخطأ مكان عادل! ماريو وسوالفه!
يصل مدرب المنتخب العُماني للشطرنج. التوتر يرتفع إلى أقصاه، من جانبٍ كلُّ يلعب مع خصم غريب عليه في رقعة الشطرنج، وبجانبنا مدرب المنتخب! من ستحاول أن تثبت براعتك له! خصمك أم الخصم الخفي! المدرّب الذي يقرأ عقولنا، اللاعبُ السريُّ الذي أربك المكان ورفع حرارة المواجهة.
وصلت أوُّل الهدايا، رقعة شطرنج كبيرة الحجم وساعةٌ مخصصة للمباريات لمن هم أعلى من مستوى [بغام]. بدأت معركة المبتدئين، الحكم يشرح لنا القوانين، القرعة تتم، سأبدأ المعركة بالأحجار الغامقة، عادل يبدأ بالأحجار الفاتحة، ومباراة تبدأ من الصفر. التوتر يحرق الهواء، والمباراة بدأت.
حرَّك عادل أحجاره بهجوميَّة شرسة. كاميكازيُّ بمعنى الكلمة. توتّرت أكثر مما كنتُ متوترا، لعب بكفاءة عالية. حاولت تذكر الدروس النظرية قدر استطاعتي ولكن هذا اللاعب ليس لقمة سائغة، قدَّم لي هديةً على طبقٍ من ذهب، افترستُ الحصان لأكتشف النهاية المريرة. كش ملك مات! لقد خسرت أول مباراة!
ارتفعت حرارة رأسي. المباراة تنقل على الهواء مباشرة، وهذا لاعب هجومي لا يترك لك فرصة للتنفس. كان حصانا مسموما والنهاية خسارةٌ مروّعة. صفّت جنود المعركة، الأحجار الفاتحة هذه المرَّة من نصيبي، الهزيمة قامت بفعلها، التوتر يُحرق أصابعي، ضبطت تنفسي وبدأتُ ألعبُ بتركيز أكبر.
غبت عن الوجود، القلق يحرق رأسي والتركيز يكلّفني الكثير. ركّزت في الوقت، وحاولت كل ما بوسعي لأهجمَ كما يهجم. انتظرتُ فرصةً واحدة لأتنفسَ من الهجمات المتتالية، وجدت ردة الفعل، انتهزتُها، قلبي يخفق قلقا، توترنا كلنا، ومرَّت المباراة بسلام، كش ملك مات، لقد تعادلنا، وبقيت الحاسمة!
بقيت مباراة، أمام الأصدقاء، تبثُّ على الهواء. العدائية التي يلعب بها عادل أرهقتني بمعنى الكلمة، لم أنتبه إلى شيء، هو كذلك مُرهق. المباراة الثالثة كانت كارثة بالنسبة لي، ألعب بالأحجار الغامقة، التعادل يكفيني لأفوز، ولكن أي فوز هذا بالتعادل! ستكون معركة صعبة!
نسيت وجود مدرِّب المنتخب، نسيت أن المباراة تبث، بدأت أطبق بعض تمارين التنفس، عقلي مرهق بشدَّة، وكلانا يلعبُ من أجل الفوز، الجوائز التي أعلنها بعض المغردين جعلت الأمر أصعب. زجاجة عسل، عزيمة، رحلة! يا إلهي، كل هذا في لعبة بين مبتدئَيْن؟ المباراة الأخيرة، الفوز، أو الخسارة!
بدأ اللعب، لا مجال فيه للتنفس، عادل يهاجم بضراوة، أخذت مقاربة دفاعية، عقلي لا يستطيع التفكير. القطع مفتوحة، والفيل، والوزير يتحركان بحماسة دبيان لاسعة. الوقت يحاصرنا، وكلانا خانَه تركيزه في نقلات صعبة. خطأ فادح مني لم ينتبه له، وخطأ فادح منه لم أنتبه له. مباراة عجائبية!
نسيتُ أين توضع هذه المباريات في عالم المحترفين، إنهم يضحكون الآن فما حدث كان كوميديا بمعنى الكلمة بالنسبة للاعب كبير، كنتُ وعادل في وضعٍ آخر. الأمر جاد، أحدنا سيفوز، والآخر سيخسر، مدرب المنتخب يشجعنا ويرفع من معنوياتنا. مبارة هجومية، وعقول محترقة، ومنهكة، والوقت يحاصرنا.
تساقطت القطع، الكفَّة غير واضحة، الرقعة مفتوحة. بقيت دقيقتان، خطأ كبير مني، خطأ كبير منه، سقط الوزير، القلاع تتحرك، الفيل والقلعة في الصف السابع، جنديّه يتقرب من التوزير، كادت قلعتي أن تكون هدية لفيلٍ جاهز للفتك بها. التركيز في الحضيض، واللعبة مشتعلة!
الدقيقة الأخيرة، اللاعبان مرهقان، الوقت لا يسمح بالتفكير، النقلات تتسارع، ألعبُ أقربُ لعبة ممكنة. لقد فزتُ، لكنني كنت غارقا في عالمٍ آخر، ألعب شبه غائب، لم أعرف أنني فزت بالمباراة الثانية، وأن المواجهة خُتمت. يخبرني عادل فقط: لقد انتهت المباراة؟
ماذا؟
انتهت!
نهاية عصر الأدمغة، لقد انتهت المُباراة! ولكن عزيزي القارئ، هل تظن أن هذه حكاية الانتصار التي جئت أسردها؟ فوزي في جولة شطرنج عاديَّة؟ كلا يا صديقي. الانتصار كان في مكان آخر، انتصار صديقين ظفرا بذكرى نادرة سوف يحكونها ذات يوم. عندما لعب البغمان أمام مدرب المنتخب!
هنا انتصرنا.
من تحدٍ بين صديقين، إلى حزمة فعاليات قادمة، حماسة شطرنجيَّة. أن يراقب لعبتك مدرِّب محترف. لقد انتصرنا، صنعنا الذكرى التي لم نعشها من قبل. جرّبنا الساعة! والشعور الآلي بضرورة الضغط عليها بعد اللعب! كل ذلك كان جديداً. أخذنا دقائق حتى نعود إلى عقولنا. انتهى التعب وبدأت المغايظة.
يصافحني عادل بحرارة ويبارك لي، ثم يقولها "الفائز هو المهذون الأكبر" لم ينسَ هذه المرَّة صفتي الهذونية الأعز إلى قلبي. هدأ اشتعال العقول، لم تعد أصابعنا تحترق بجمر التحدي وقلق الخوف من الخطأ الفادح. مدرب المنتخب يخبرنا عن لعبتنا، ويحللُ ما حدث بها.
عُدنا إلى واقع الحياة، الخطط تصنعُ نفسها، اللقاءات مع الشطرنجُ، المتعطشون للعب، وللتعلم. المحترفون يضحكون ويقدرون حماسة المبتدئين، الفائز له هدية، رقعة الشطرنج له، وساعة لعبٍ مخصصة للشطرنج أيضا هدية له. هل هذه حكاية الانتصار؟ كلَّا يا عزيزي القارئ. الحكاية في مكان آخر.
الحكايات، تبدأ باللقاء وتنتهي بفراقٍ مع وعدٍ لقاء. اللجنة العُمانية للشطرنج تتلطف باثنين من المبتدئين، نناقش المدرب بحماسة، لقد عشنا شعور الضغط على ساعةِ اللعب لأوّل مرَّة!
لقد اكتملت أركان الذكرى الجَميلة.
لقد انتصرنا .
والقادم أجمل
بإذن الله.
شكرا لك يا عادل
@adil_alkasbi
+
لم