بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 30 مايو 2024

عندما يصبح الأمر واضحا أمام عينيك!

 #سلسلة_نقاط_وحروف:

أبني نشاطي الاجتماعي بناء على مجموعة من المسلمات التي أصبحت واضحةً أمام ذهني. سنواتٌ طويلة من النشاط الرقمي الهائل، آلاف الساعات من الإنتاج النصي في بادئ الأمر، ومن ثم لاحقا إلى الإنتاج المرئي أو المسموع. كنتُ -كحال الأغلبية ربما- في البدء أتوهم أن طاقتي العشرينية ستكفي لتغيير العالم، والمجتمع، وعُمان، وإصلاح كل شيء، وتصويب المفاهيم، وأشياء كثيرة تفوق قدرتي ووعي وفهمي. مع السنوات، لم أصب بالإحباط، أصبت بالواقعية، ولذلك أبني نشاطي الاجتماعي على هذه المسلمات. الأولى: كُل ما أفعله يهدف في المقام الأوَّل إلى صناعة بذرة أولى، في أي شيء. تأسيس فكرة جديدة، والعمل على إبقائها على قيد الحياة، ومن ثم تسليمها إلى الذين سوف يتولون استمراريتها. الثانية: أنا في الأربعين، رهاني الكبير في آمالي الاجتماعية مرتهن كليا على الجيل الجديد، كلها سنوات بسيطة وستكون أكبر همومي صحتي، والبحث عن العيادات، أو ربما مواجهة العلل الجسمانية الجسيمة، سواء حدث ذلك خلال عشرين سنة، أو خلال عشر، أو أقل! هذا هو الحتمي، أستشعر كثيرا تلك الأمانة بين الأجيال، وأحاول قدر استطاعتي فعل شيء ما لتسليم راية كل المبادرات والأحلام إلى هذا الجيل المفعم بالطاقة والأحلام. الثالثة: المتر المربع! لم أعد أضخ وقتي، وجهدي وطاقتي ونشاطي في المساحات الكبيرة والهائلة، أختار مربعا صغيرا وأضخ فيه كل ما يمكنني فعله من حماسة ومن نشاط، وعندما أرى مفعولا، وأثرا، أستمرُ فيه حتى يكتسبَ الزخم الكافي ليصبح نمطا سلوكيا، أو مبادرة مستمرة. الرابعة: تجنب صناعة العجلة من الصفر، عندما يكون لدي آمال اجتماعية، أبحث عن الذين لديهم الشغف نفسه، وأنضم لهم، وأعاونهم، وأفعل ما بوسعي لأكون مفيدا. الخامسة: كل جهدي لا أبنيه لكي أخاطب الحكومة أو النظام العام أو الدولة أو أصنع التنظير هذا من أجل واقع تشريعي جديد، ليس لأنني لست مؤمنا بأهمية ذلك، ولكن لأن لهذا السياق أناسه الذين يجيدونه أكثر مني بمراحل، أتابع هؤلاء الذين لديهم هذا الطرح المختلف، وأتمنى لهم التوفيق والنجاح. السادسة: من المجتمع وإليه، هذا ما أتبناه منذ أن هجرت عالم السياسة بكل ما فيه، لست مشغولا بإدانة أخطاء الحكومة، أو بتمجيد إنجازاتها، أنظر لكل عملي وفعلي ووجودي في هذا المجتمع بمنظور اجتماعي بحت، المبدأ بسيط للغاية، أنا ابن مجتمع يسرني ما يسره ويضرني ما يضره وأتمنى له الرفعة والمكانة العالية والنجاح والوفرة والرخاء والعدالة والحرية. السابعة: أتجنب قدر الإمكان آثار تجربتي في الحياة، ولا أدينها كما كنت أفعل من قبل، وأيضا لا أمجدها كما أفعل أحيانا. أتعامل معها كشيء حدث، وأبقي هامشا من الشراسة والشر للدفاع عن نفسي فقط، لم أعد أنظر للمعارك كهدف، وإنما كضرورة في حال قرر الخصم ذلك. وهذا صنع لي سلاماً رغم صعوبة وضعي، والزخم غير المحمود الذي عشته في تجربة سياسية عبثية، لم أكن أعرف من الأساس ما أريده منها! الثامنة: أؤمن أن القطار قد فاتني، ولا أقصد هذا من الناحية السلبية، وإنما، أنا في الأربعين، كل ما يخص عُمان بالنسبة لي هو عملية تسليم إلى الجيل الجديد، والذي سوف ينجح ويفشل، وسوف يفعل الصواب والخطأ، وسوف يخوض التجربة كما خضناها، وسيخرج بخلاصات مختلفة عن الذي عشناه، هذا الشعور يسكنني في كل نشاطي الاجتماعي، وطاقتي التي أنشغل بها بمحاولة أن أحقق نفعا يرضي ضميري، ويعوض شعوري بالسنوات التي ذهبت في معمعة السجون والإدمان والخصومات والمواجهات الشاملة! التاسعة: أعدل عقدي الاجتماعي بين الفينة والأخرى حسب الممكن والمتاح، الصواب في هذا العالم كثير للغاية، أكتفي بأن أنشغل بالصواب الذي يتلاءم مع قدرتي وفهمي في الحياة، أما باقي الصوابات فأكتفي بعدم رفضها، ومتابعة جهود الذين يقومون بها باحترام وتقدير ومشاعر غامرة بالأمنيات للنجاح لهم. التاسعة: المجتمع الكبير، يختلف عن ذلك المجتمع الذي أنت تعيش فيه، ثمة مجتمعات صغيرة تكون واقعك وعالمك، مجتمعك هو حيث تتفاعل مع الناس، ومع البيئة التي تمارس فيها دورك العضوي، لا أبني عملي الاجتماعي بناء على المجتمع الكبير جدا، وإنما أختار تلك المساحة التي تشكل واقع حياتي، وأسعى أن أفعل فيها شيئا ما، ولعل بعض الأشياء تحدث. هذه المسلمات التي صرتُ أتبعها في حياتي، قد لا تكونُ تلك الجذرية، المشحونة بطاقة العشرين، لكنها تعطي نتائج صغيرة ومعقولة، وتجعل كل الجهد الاجتماعي ذي قيمة وتأثير، وإن كان طفيفا. الذي أعيشه هو فرصة ثانية في مجتمع صعب للغاية، لديه قدرة على التجاوز والغفران، ولكن أيضا لديه القدرة على اغتيالك ونسفك من خطأ واحد. مفهوم الفرصة الثانية للجميع هو شيء يسكنني، واجبا، لا امتنانا فحسب. وهذا ما أتمناه لكل إنسان انعزل عن مجتمعه وكوَّن علاقة سامَّة معه، أنا لا أقول الآن أن المجتمع الكبير وتفضيلاته العمومية وزخرفه أحيانا، وترفه أحيانا، وانسياقه أحيانا هو الصواب، الذي أقوله ثمَّة مجتمع صغير لكل إنسان يمكن أن يعيش فيه، وهذا هو المجتمع الذي ينتج فيه، وينفع فيها، ويضيف فيه، ويشكل تغييرا أو تأثيرا فيه. هذه المسلمات التي لم تكن تملك كلمات، الآن فقط أستطيع كتابتها بوضوح ذهني، وبشعور بالقرار، والاختيار، وبناء على ذلك المضي قدما حسب الممكن من ظروف الحياة، والصحة، والجسد، والوقت، والطاقة، والأهم: الحماسة!