ككل الأشياء التي تحدث في وقتها ألتقي بصديق مهموم بالكتابة، في الخامسة فجراً نصل إلى خلاصاتنا بعد حوار طويل! الكتابة ليس أمرا بيدك، مهما هيأت لها من الظروف الكافية، ستبقى تلك اللحظة التي تقودك إلى لوحة المفاتيح غامضة، تصنعها عوامل خفية، وتظنُّ أنَّ إزاحتك للمشاغل، أو تنظيمك للمكان، أو ترتيبك للظروف النفسية ستكفي! سيبقى الأمر خارج يدك، وتبقى منتظرا متلهفا لعودة تدفق الكلمات من أصابعك.
الكتابة حقاً شيء غريب، صلةٌ مباشرةٌ بين ذهنك وورقة بيضاء، وأنت كالمتفرج، كأنك أداة مطيعة صاغرة لتفاعلٍ يحدث بلا توجيه منك، ترى الكلمات تتكون أمام عينيك وتتساءلَ، أين كان كل هذا؟ من أين جاء؟ وكيف تحدث هذه اللحظة المبهرة! وتكتب! أحيانا تكتب ما يدهشك، وأحيانا تكتب ما يدهش الآخرين، تفلتُ من ذهنك حقيقة جديدة بالنسبة لك، حقيقة تعرف أنها تنطبق على العالم، أو على الأقل، على جزء منه! الكتابة! صانعة الدهشة، ودهشة الصانع!
لماذا من بين كل خلائقه ميزنا الله باللغة! هذه الخوارزمية المعقدة من الأصوات، والكلمات، والدلالات، والثقافة الخاصَّة بها، تعبر خلالنا كبشر وتكتسب خلودها! وتتغير، وتتجذر، وتتفرع، وتنتثر، وتنتشر، كالضوء حينا، وكالأوراق حينا، وكجلاميد الحجارة وهي تتراقص فوق حمم من البراكين، اللغة، عدوة الموت، صديقة الحياة، وسيلة العاقل والجاهل، والظالم والمظلوم، ذات المجادلة، وذات اليقين، وذات الحتمية والنسبية في آن واحد، ما أنت أيتها اللغة!
أشعر بالحزن والفرح، باليأس والأمل، باليقين والشك، أشعر بكل شيء في هذه اللحظة العدمية التي أكتب فيها. أهرب من الحياة إلى هذه الحياة وأتساءل: لماذا أكتب من الأساس؟ وما الذي يجعل هذه السطور لزوم ما يلزم، حكما دامغا بموت الوقت وحياة الأفكار! لقد تجاوزت وهم أنني أصنع الأفكار، ما أنا إلا كما هو غيري، معبرٌ لها، تتلقفنا اللغة فور تكويننا لوعينا الطفولي الأول، وتستلمنا الكلمات بعد أن نعبر إلى رحلات النضج والبلوغ، وتكمل الثقافة فعلها ونحن في العشرين إلى أن تأخذ المعرفة أمانة أجسادنا في نهاية الشباب وبداية عمر الحكمة! سنة أزلية، أبدية، لسنا فيها أكثر من محاولة لنيل ذلك النص الذي يحمل اسمنا فنرحل ولا يرحل! أي مأساة جميلة هي الكتابة!