بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 11 أغسطس 2024

لحظة ظفار

 لحظة ظفار! هذه لحظتي!


إنه يوم نادرٌ من أيام الخريف. غيوم بلا رذاذ، هواء راتب بلا رطوبةٍ، نسيم جميل، وصحبة الأصدقاء. وماذا بعد؟ لوحة مفاتيح في الهواء الطلق!
لا أعلم متى بالضبط بدأت أحبُّ هذه الغواية، أن أكتبَ تحت مظلة الهواء الطلق. لا أظن أن للأمر علاقةً مع عالم الدفع الرباعي الذي أدخل تفاصيله الساحرة برفق. لسبب قهري صنعت هذا الرابط، مع أنَّ فعل الشيء نفسه بسيارتي الأفالون ممكن أيضا، كل الذي أحتاجه تلك القطعة التي تشحن حاسبي الآلي المتنقل [اللابتوب]، ويكفي! ربما لا يكفي لصعود الجبل الأخضر، وربما لا يكفي لصناعة طمأنينة للكتابة! سأربط الأمر قهريا بعالم الدفع الرباعي، أنا معاوية، وهذا ما أفعله، أصنع هذه الروابط قهريا وأتبع إملاءاتها!

زرتُ صلالة للمرة الأولى عام 2007م مشاركا في الملتقى الأدبي، لم تكن رحلةً حقيقية بمعنى الكلمة، رحلات صغيرة، وشعور عامٌّ بالعزلة عن المكان، ثم مرت السنون، ومرَّت، ومرَّت! وأزورها للمرة الأولى بشكل حقيقي عام 2022، ومنها بدأت أعيش ما يُسمى بلحظةِ ظُفار! هذه اللحظات التي أعادت تشكيل علاقتي ومشاعري تجاه عُمان، وتجاه كل الذي عشتُه فيها من حياة. عشتُ ولاقيت في حياتي في عُمان شتى أنواع المواقف، والظروف، من النجومية، إلى الاحتراق والاغتيال الاجتماعي، ظلمْتُ، وظُلمتُ، مررت بالفترة التي أحب أن أكون فيها مكروها، وكُرهتُ، ومررت بالفترة التي أحببت أن أكون فيها محبوبا وأحببتُ، وعشت جميع تقلباتي، لم أتأقلم حتى هذه اللحظة مع هذه العمومية الواسعة في حياتي، وبكل صراحة أنا لا أعرف من هو معاوية الرواحي بالضبط، أعرف ماريو، وباقي الشخصيات التعايشية التي لا أتوقف عن الحياة بها، أما هذا المعاوية الرواحي باسمه الكامل فأتتبع معناه من عقول الآخرين، وأستغرب حالي حال الإنسان الغريب عن شخصيته الغريبة، المليئة بالقلق، والمشاهد العامَّة، والعقل، والجنون، والكتابة، والكوميديا، والهجرة، وأن يوصف بالمعارض حينا، وأن يوصف بالموالي حينا، وأن تلاحقه شتى أنواع الصفات، من تلك التي ترفع من مقامه فوق ما يستحق، أو تلك التي تنزل من مقامه أقل مما يستحق، أو تلك التي تضعه موضعه المنطقي، أو تلك التي ترفض أن تنظر له بإنصاف، وهكذا دواليك، كما قلت لكم من قبل، لا أعرف هذا المعاوية مطلقا! أكتفي بأن أعيش داخل عقله، وأكتب! بلا توقف، وأنطلق في الكتابة آملا أن أخلو لأطول وقت ممكن بهذه الأزرار!

لم تفتح عيني على حقيقة وجودي في عُمان إلا للمرة الأولى في ظفار، عام 2022م. دهشةُ الصحبة الجميلة، ونادي الإنقاذ رباعي الدفع، وفي الوقت نفسه دهشة التعرف على ظفار، وأهل ظفار! ويا إلهي! أي طبيعة نادرة في ظفار تجعلك تحب هذا المكان، وتحب أهلَه. ثمَّة شيمة حقيقية في أهل ظفار تجعلك تطمئن إلى وجودك حولهم، الوضوح! الذي يحبُّك ويكن لك احتراما لا يخفي ذلك، يظهره ببشاشة، يغدق عليك صدقه وشفافيته، هكذا بكل انطلاق واندفاع، بلا حواجز وكأنه يعرفك منذ ألف عام!
عشتُ في عمان حياةً غريبة، ومنذ متى لم أعش حياةً غريبة من الأساس!!! عشت محبوباً، ومكروها، وعشت سؤالا غامضا، وعشت شبحا خفيا، عشت حياة الأقنعة، وعشت حياة الوضوح، صرت وعاء زجاجيا في فترة، وصرت مزهرية في فترة أخرى، وتحطم الزجاج، وتحولت إلى شظايا حادة غاضبة، وانتهت المعمعة كلها في عام 2020م بالعفو السامي الذي أعاد حياتي لنصابها الصحيح، وبدأت أعيشُ تلك التي تسمى الحياة الطبيعية، الهادئة.

إنها زيارتي في عام 2022م التي أعادت تشكل فهمي لتجربتي في الحياة في عُمان، هُنا كل شيء واضح، المحبة واضحة، والكراهية واضحة، والذي يقبلك في ظفار يقول ذلك بوضوح، والذي يرفض في ظفار يقول ذلك بوضوح! وكل عام موقف يرصِّع الذاكرة بفتح جديد من فتوح الذات، أو فتوح النفس البشرية، أو ببساطة من تلك الفتوح الاجتماعية التي تهديك وعياً مختلفاً لم تكن لتصل له بنفسك بلا موقفٍ اجتماعي لم تخطط له.

كل موقف يستحق أن يكتب في لحظة خاصة به، كلها تجتمع على صفة واحدة، الوضوح التام! المحبة بوضوح، والكراهية بوضوح. فقط في صلالة، يصافحك إنسان ويقول لك بصدق الأرض كله: والله إني لم أكن أطيق شوفة وجهك! ولم أكن أطيق سماع اسمك، ولم أكن أطيق أن أرى لك مقطعا يصلني في الواتساب، ولولا العفو السامي الذي صدر في حقك لما طقت أن أسلَّم عليك! ولكن! عفى الله عمَّا سلف!

هكذا! بهذه البساطة، والوضوح الصارم، واجتماع الحفاوة مع الصدق مع الذات والآخر! يحدث في ظفار فقط، ولا أظن أنَّه يمكن أن يكون مقبولا سوى في ظفار! لا أظن مطلقاً أن أحدا لديه هذا الامتياز سوى الظفاري! امتياز الصدق، والعتب الصارخ المختلط بالتجاوز الشفاف!

أبصر في ظفار ما لم أكن أبصره في أي مكان آخر. أكون مثقلا بالحزن والشعور العارم بالأسف وأنا أعيش أيامي الأخيرة فيها، أحاول أن أحشد أكبر قدر من الذكريات، وأن ألتقي بأكبر قدر من الأشخاص، وأن أعيد كل ذكريات الدهشة الأولى التي حدثت في عام 2022م.

في ظفار، ما هو أعمقُ من ظاهرة الخريف، وسياحته، وفعالياته، وهواياتنا التي نحبها، في ظفار روحٌ عريقة، وغموضٌ له خصوصيته، ووضوح له قوانينه، ومكان مختلف، وبشرٌ منغمسون في هذا الجمال وامتلأوا به حتى فاضوا به، في ظفار ما هو أجملُ، وفي كل مرة أعود من ظفار أعرفُ أنني سأصنع وثيقةً من الشوق، وسأشتاق هذه الرحلة السنوية كما أفعل دائما وأبدا!

معاوية