يقترب الموعد الجميل، الشهور الأربعة التي أغلق فيها عقلي عن النظر للمستقبل البعيد. هكذا عاهدت نفسي في كل فصلٍ دراسي أدرسه، أن يكون عقلي مخصصا للنظر للضوء في نهاية النفق. يا إلهي! حتى هذه اللحظة لا أصدق أنني أعيش هذه الرحلة! عقدة دراسية عمرها عشرون عاماً أخذت وقتا هائلا لتتفتت!
قليلٌ من الناس في هذا الكوكب يعرفون معنى هذه الجملة "كان في كلية الطب" بكل ما فيها من المعاني المتناقضة. كانَ في كلية الطب! والبعض يصفها بلغة أقل حدة "دخل كلية الطب" ونعم! كنت في كلية الطب، ولكن ما الذي حدثَ بعدها! حدث الكثير، وتكونت العقدة الشديدة من الدراسة، عقدة أخذت عُمرا كاملا لأكتشف حلَّا لها.
عندما قررت الخروج من كلية الطب، اتخذت القرار مبكرا. أدركت فورا حجم العبء الهائل الذي سأعيشه إن أكملت في هذه الكلية! ولكن لا تسير الأمور حسب رغبة مراهق في الثامنة عشرة، [هل هي عشر أم عشرة نسيت تمييز المعدود الآن] سأسأل المصحح العُماني إن كان يقرأ هذه التدوينات. ليته [يستقعد] لي كما يفعل مع الحسابات الرسمية كنت سأستفيد منه فائدة جمَّة، على الأقل سأكون من الذين يقولون له شكراً. ما علينا! نعود للموضوع.
بدأ إدراكي لأعباء كلية الطب من الشهور الأولى، ونويت التحويل فورا، ولكن! إنها جامعة السلطان قابوس، وإنها كلية العلوم، صدمات العُمر الأولى، يجب أن أنهي عددا من الساعات قبل أن أخرج إلى عالم الحرية الذي كنت أظنه جميلاً. لم أكن أشعر بالخسارة، ولم أشعر مطلقاً بأي شعور سيء، الكلية لا تناسبني، والموضوع بسيط!
كلية الطب لا تتحمل إنسانا غارقا في الفضول الاجتماعي، لا تتحمل إنسانا لا ينام بشكل جيد، ولا تتحمل إنسانا يقضي معظم الوقت في قراءة الروايات والبحث عن الكتب الفكرية ويشارك ليل نهار في النشاطات ويسهر في تكوين الصداقات الجديدة، لا تتحمل إنسانا مجازفا تتبلور في عقله النوبات الأولى لصديق العُمر الذي سيرافقه لنهاية الدرب، في ظروف إعجازية قليلة يمكن للقليل من العباقرة حقا الجميع بين جنونهم وبين النجاح المعقول في كلية الطب، ويؤسفني أنني لست أحد هؤلاء العباقرة الكبار الذين رأيتهم بعيني! صدمة تدفعك للتواضع، وتُشعرك بحجم ذكائك والذي وإن كنت تتباهى بحدته وقوته أمام العالم لكنك سترى العبقري النادر، ذلك الذي جمع بين الجينات وبين العمل الشاق وتتراجع عن الشعور بأنَّك ذكي!
فقط في كل الطب، تشعر أنك عادي حتى النخاع، وتفقد دوافع كثيرة كنت تندفع لها بسبب شعورك بالتفوق والذكاء، وأي دفعة كنت فيها!!! هاشم با طاهر، أميرة العبيداني، الدكتور منذر، الدكتور أيمن السالمي، عندما أقول عباقرة فأنا أعني ما أقول، أعنيه بكل معاني الكلمة!
كانت خطتي مختلفةً تماما، خطة ليست في محلها، وليست في موضعها، وليست تماما قابلة للتطبيق، كنت أحلم أن أكون كاتباً، وكنت أعلم أن العائق بيني وبين الكتابة ليس أن أستعد كقارئ، وليس أن أتعلم فنون الكتابة والتعبير، أكتب منذ عمر التاسعة ربما! بالورقة والقلم، أكتب وأشعر بالزمن هائلا لأكتشف أنني كتبت عشر صفحات بالكثير في ذلك الدفتر الأزرق، كنت أحب الكتابة، كما أفعل الآن يوميا، أكتب وأكتب ولدي شعور أنني أتمرن على الكتابة وأحلم بأن يأتي ذلك اليوم الذي يتقاطع فيه فهمي وإدراكي مع تجربتي وذاكرتي، كان قرارا في غير موضعه، من كاتب مراهق أن يقدم عمره قربانا للكتابة، أي قرار متعجل اتخذته! أي قرار كان، خطأ منطقيا، صواب روحيا، خطأ لا أندم عليه، فهو أثمن أخطائي التي أحبها. أما خروجي من كلية الطب فكان أكبر صواب أكرهه!
لا أعرف لماذا يعامل الناس كلية الطب وكأنها الجنة! الطب مثل الزوجة الغيور التي لا تقبل التعدد ولا تقبل حتى رائحته ولا حتى تلميحه الضمني، استحواذ تام على حياك كإنسان، يجب أن تكون جاهزا لذلك، مستعدا لقضاء وقتك وأنت تدرس بلا توقف، وتعمل بلا توقف، وهذا يستمر بعد أن تصبح طبيبا إلى نهاية العُمر، مسارٌ ذهني، وأخلاقي، واجتماعي، وإنساني، ومليء بالتعقيدات الفلسفية وبالقرارات وبالصدمات النفسية، أن تكون طبيبا يعني أن تفعل الممكن في ضوء المتاح، أن تتقبل الموت حولك، أن تتقبل وجود القصور الدائم في أي نظام رعاية صحي، أن تتقبل أنَّ المجال ممتلئ بالأطباء الذين بعضهم بلا ضمير، وبعضهم بلا إنسانية، وبعضهم مظلوم يجحف حقه مدير نرجسي لديه عقدة الإله، كطالب طب تتمرن على كل ذلك مبكرا، تتمرن على قسوة الحياة عليك، وتتمرن على قسوة ذهنك عليك وتعيش أقصى درجات الضغط النفسي لأنك بدون هذا التعذيب لن تكون طبيبا، لكي تكون طبيبا، يجب أن تقبل، وأن تحب رحلات البصيرة، والفتوحات العرفانية الطبية التي تصقلك كإنسان، ومعظم الأطباء يفعلون ذلك، وبضعهم لا ينجون من شرور النفس، منهم من يتحول إلى آلة صمَّاء عجماء لجني المال على حساب المرضى، وبعضهم يتحول إلى راهبٍ من الرهبان التي تعمل كالآلة، وبعضهم يتحول إلى طريق الشرور وخيانة المهنة وخيانة أسرارها، هذا فضلا عن الذين يُحبطون فيقف مسارهم الطبي ويعيشون إلى نهاية المهنة في مكانهم، لا يتطورون عمَّا كانوا عليه! هذه الاستثناءات التي كنت أصاب حقا بأن أكون واحداً منها.
كنت أعلم أنني مضطرب نفسيا منذ بداية فترة الجامعة، لا أنام لعدة أيام، أكتئب بلا سبب، أتكلم بلا توقف، يغلبني خيالي، أتعرض لشتى المواقف المحرجة وكأنني مسكون بروحٍ قديمة تريد أن تستحوذ على حياتي. أخفيت حقيقة اضطرابي النفسي حتى بدأ بالتفاقم. اليومان اللذان كنت لا أنامهما أصبحا ثلاثة أيام، وأربعة أيام، نوبات السعادة الهائلة بدأت تشغلني عن أي شيء آخر، يا إلهي! نوبات ثنائي القطب الأولى! الأشد نشوةً، والأقسى في العواقب!
علقت لعامين في هذه الكلية، أحاول جاهدا الهرب منها، وكنت في أشد حالات السعادة عندما تمكنت من الخروج منها! ولكنني اكتشفت درسي الأوَّل والأكبر في الحياة! أنني لا أعيش في ظاهرةٍ فردانية. أعيش في مجتمع كامل متكامل، وهذا المجتمع له آراء، وهذه الآراء سامَّة وجارحة، ومنها بدأت العقدة التي قليل من الناس يفهمون معناها، عقدة "كان في كلية الطب" أو عقدة "خرج من كلية الطب" ويالها من عقدة!
هل تتخيل عزيزي القارئ أنني أكتب للمرة الأولى عن هذا الجرح الشديد؟ لقد مر 22 عاما قبل أن أستطيع البوح بوطأته. أخرجُ من كلية الطب إلى كليةٍ أخرى، كنت أريد الذهاب لكلية الآداب لكن شتى التعقيدات قد منعت ذلك، فضلا عن كوني قد بدأت مشاغباتي الرقمية باسم مستعار! العالم الآخر، الخفي الذي ابتلع حياتي حتى هذه اللحظة! بوعي الفراشة الذاهبة للنار، وبجهل الشاب الذي لا يعلم ما الذي يدخره له الغد من خيبات ومن نجاحات!
لم أخرج من الطب، هذا ما كان يراه الناس، خيبة العائلة والعزاء الاجتماعي الذي عاشته شيئان جعلاني أندم أنني دخلت الكلية من باب التجربة فقط، هكذا قلت في نفسي: أدخل، وأجرب ولو لم يعجبني الوضع حولت لكلية أخرى!
هذا ما تقوله لنفسك وأنت تظن أنك سيد كل قراراتك، هل المجتمع المحيط بك سيتقبل هذه الصدمة، كل فرد في عائلتك البعيدة يخطط لشيخوخة جميلة، مع طبيب من العائلة يسند صحته، يكفي جرح الأم والأب وهما يفقدان الطبيب المرجو في العائلة. كنت بخير، كنت حقا بخير وسعيدا بخروجي من كلية الطب حتى فوجئت بأبعاد ذلك الدخول! وبخيبات ذلك الخروج. لم تبدأ عقدتي الدراسية أثناء كلية الطب، بدأت بعدها، ولأنني وقتها إنسان هشٌّ نفسيا، تكالبت علي مسببات الضعف، وماتت جامعة السلطان قابوس في قلبي!
ماتت التجربة الجامعية ككل في عيني، وصرت لا أعبأ بمصيري الأكاديمي، حاولت جاهدا الحفاظ على علاوة الجامعة لأكبر قدر من الفصول، ولكن قرارا قد اتخذ، وكان بلا رجعة. يمر الوقت، والعقدة الاجتماعية تتسع وتتسع، وفي عقلي المشحون بكل أسباب الاضطراب والبعد عن التفكير المنطقي كانت أفكاري تتخمر لأخوض تجربة العُمر بأقصى درجات المجازفة والجنون! ولم أكن أمزح عندما كنت أقول لأصدقائي: سأعيش جنوني حتى النهاية، فإما النجاة منه أو الموت به!
وجهت خياراتي في هذه الحياة لكي تصبَّ كلها في شيء واحد، أن أكون كاتبا! وكانت عقدتي الأخرى أنني لم أعش ما يكفي من الحياة والتجارب، عشت حياة الطالب المتفوق على الطريقة المصرية، الذي يفضل قراءة كتاب على الذهاب للعب كرة القدم! زملائي يُضربون بسبب قضائهم وقتاً طويلا في ملعب كرة القدم أما والدي فيذهب ويشتري لي حذاء كرة قدم، وكرة قدم ودراجة هوائية ويدفع بي دفعا لأخرج قليلا! كنت قارئا نهما يقرأ طوال الوقت تقريباً.
كنت فخورا بحياتي كقارئ نهم، لم أمقت يوما ما هالة الطالب النجيب، القارئ، فصيح اللسان، الذي يحفظ الشعر والمعلقات وقصائد أبو مسلم البهلاني، كنت أعدُّ نفسي لحياة من الكتابة، وظننت أنه يمكنني أن أجمع بين الطب وبين حياة التجارب، عندما حدثت الخيارات، اخترت تلك التجارب الحياتية، ولست نادما على ذلك مطلقا، لكنني أشعر بالحزن لأنني لم أكن أعرف خيبة الكاتب العشريني، ولا قصر مداه، ولا ضعف تأثيره، خيبة البدايات وصعوبتها، والحكمة التي تأتي متأخرا، والتغييرات التي تصيب الأفكار والعقل!
عقدتي الأخرى كانت عقدة التجربة! وقد أطرت هذه العقدة حياتي بكل معاني الكلمة! أذكر أنني قلت لصديق لي: لن يعوضني عن كلية الطب سوى حياة أكون فيها كاتباً، ولا أعرف كيف ستكون!
يا إلهي، يالها من حياة طويلة من الصعب اختصارها! لكنني اندفعت حقاً، اندفعت في فضول التجربة وأنا لا أعرف أي نداء غامض يدفع بي لكل ذلك الجنون، أندفع للمنظومة السياسية بجنونٍ متناقض، أندفع تجاه التفكير، تجاه الكوميديا، تجاه الشأن العماني العام، تجاه الثقافة، أكتب الشعر، والقصة، وأحاول كتابة روايتي الأولى منذ بداية عُمري.
ابتلعتني تجربتي في الحياة حتى صرت لا أستطيع الخروج منها! تعقد الوضع بشدة! قررت الخروج من الجامعة ثم شاءت الصدف العمياء أن أستدعى للعمل في شؤون البلاط السلطاني! فرصة ذهبية بمعنى الكلمة، وكل ما رأيته في هذه الفرصة هي سانحة للكتابة! مجدداً، حتى تلك الوظيفة الذهبية كل الذي شكلته لي هو راتب أستأجر به شقة، وفرصة للكتابة في المساءات كلها! لم أكن محظوظا في تلك السنوات!
إعصار جونو أغرق سيارتي، دخلت عالم القروض، ومن ثم العشرة آلاف التي استلفتها لكي أدرس بها سُرقت في محفظة من المحافظ الوهمية! وفوق ذلك، أين كنت أعمل؟ في أشد مناطق شؤون البلاط خصوصيةً في مكتب الفريق سلطان الذي كان متفهما للغاية لكل مشاغباتي الكتابية التي لسنوات وسنوات ابتعدت كليا عن الخلط بين العمل والكتابة!
أذكر ذكريات جميلة في شؤون البلاط، كانت جميع سنواتي الأولى جيدة للغاية، ولم أكن أخلط الحابل بالنابل، لم تكن لدي مشاكل وظيفية حقيقية، وكنت موظفا لا بأس به، لدي أخطائي التي سببها اندفاعي لكنني حافظت على هذه الثنائية بصعوبة بالغة. تقبلت مصيري وتمنيت أن أجد فرصة للدراسة، ولكن من ينجو من أخطاء العُمر الكبرى.
كان مساري جيدا، بدأت العلاج النفسي، استقرت حالتي، لم يكن أحد يعلم عن مشكلتي، وعوملت في شؤون البلاط السلطاني معاملة جيدة بسبب وجود من يسندني ويدعمني، كل مشاكلي الحقيقية بدأت بعد ست سنواتٍ من العَمل، مع سيجارة الحشيش الأولى التي دخنتها. كنت على وشك الزواج من فتاة أحبها، وكنت على وشك الحصول على فرصة للدراسة، كانت اللحظة المناسبة التي يتحطم فيها كل شيء بسبب المخدرات، وفعلا، تحطم كل شيء، مرض نفسي شخص مرارا بثنائية القطب، وحالة عامَّة.
بزغ نجمي الحقيقي في سماء الكتابة منذ عام 2007، ظهر من العدم مدون يكتب مطولات يومية، والكل لديه تأويلات، وسرديات عن وضعي آنذاك وقليل من يعرف حقيقة الوضع المعقد الذي كنت أعيشه، حياتي كلها كانت شيئا هامشيا أمام عيني، كل الذي أردته في هذه الحياة هو أن أكتب، ولأنني لم أكن قد وصلت لأي خلاصة في هذه الحياة سميت نفسي [المهذون] فقط لكي أقول للجميع: لا تأخذني بجدية!
كنت صوتاً مختلفا للغاية في المشهد العُماني، وشققت طريقي في عالم الكتابة مسلحا بإرادة حقيقية، وصبر دؤوب. حلمتُ أن أدرسَ عدة مرات، لكنني لم أكن مقتنعا بدراسة تخصصات [البزنس] والتي كانت متوفرة وسهلةً، كنت مقربا للغاية من الحكومة، وكانت تربطني علاقات ذهبية للغاية مع كل أقطابها، وفي الوقت نفسه كنت قريبا للغاية من المشهد الشعبي، والمشهد الثقافي، وظننت أنني سأحافظ على المسافات الجيدة مع الجميع! رغم أخطائي الصغيرة وقتها، لكنني لم أصل للنكسة الكبرى التي حدثت لاحقا، لأخرج من كل ذلك التألق إلى القاع الحقيقي، مفصولا من العمل، مدمنا، ومحاطا بآلاف الأسئلة عن حقيقة كل شيء، ولم يكن يعلم عن تلك الحياة سوى قلة من الناس، بعضهم أراد أن يسرد حياتي بطريقته الخاصَّة من أجل منافعه الدعائية المؤقتة! هناك رميت بذور جميع مواجهاتي المؤجلة، وهناك بدأت رحلة انتقاماتي الكثيرة التي كان بعضها في محله، وكان كثيرا منها بلا أي داعٍ.
كنت بارعا في اللعبة السياسية، رغم ما يبدو عليَّ من غباء [وهبل] يعرف البعض أنه استهبال، هدفي الوحيد كان حالما ورومانسيا، حلمي هو الكوميديا، هذا الحلم الذي بقيت أطمح له حتى كلفتني الحياة أحزانا لا تسمح لي بالضحك! ومن أجل الكوميديا أحتاج إلى سقف عالٍ للغاية، سقف مستحيل بكل معاني الكلمة! آلة لغوية من الفوضى من أجل الفوضى وكل ما أقوله في نفسي: السقف الذي يكسر، يكسر لمرة واحدة!
سقوف كثيرة سقطت على يدي، كلها سقوفٌ قانونية، كلها كانت مبنية على شيء واحد، أن ذلك الخوف الذي يتباهى به الجميع هو خوف مفتعل، خوف أساسه التنصل من المساهمة في الكتابة العامَّة، ورغم كل ظروفي النفسية، والعملية، والحياتية، كتبت آلاف الصفحات دون أن أقع في معضلة قانونية! أترك الأدوية لشهور، وأعود لها لشهور، حياتي كان بها الناصح الأمين، وكان بها الصديق النصوح، ولم تخل من بعض الغيلان والأفاعي ولا أعرف كيف نجوت من شرورهم! لقد عرفت الحقيقة فقط بعد أن سقطت إلى القاع، وأصبحتُ [معاوية] الذي يحلو لمن هب ودب أن يمقته! وللأسف الشديد، أحببت أن أكون مكروها، أكاد أقول أن الارتواء المعرفي الذي كنت أطمح له قد تحقق لي عندما كُرهتُ، أكثر مما تحقق عندما كنت ذلك الشاب الذي يحلو لكثيرين أن يشعروا أنهم أمام شخص له غد متألق!
كنت أعلم في نفسي أنني سأحطم كل شيء يوما ما، لكنني سايرت الواقع كما سايرني. تعامل معي شؤون البلاط السلطاني بطريقة رحيمة وجيدة، مع انزعاجهم من مشاغباتي ومشاكساتي الكتابية العلنية لكن الذي حماني هو شيء واحد، لم أخلط يوما ما بين جهة عملي وبين كل ما أكتبه في صفحات الإنترنت، هذا كان لست سنوات من العقل والرشد النسبي. أما بعد عالم المخدرات، فقد اختلط كل شيء، ويا له من سوء حظ شديد.
أدخل إدمان المخدرات من هنا، ويشتعل كل شيء من الجانب الآخر، أحداث 2011م، وذلك المدون الذي كان يُعامل باحترام أصبح شابا مضطربا لا يعرف ما الذي يقوله، ولا يعرف ما الذي يكتبه، أشخص حالتي الآن بأنني كنت أعاني من الذهان المرتبط بالاستهلاك المفرط للحشيش، كان الجميع يعلم أنني أمر بمشكلة جسيمة، وكانت النتيجة مأساوية، كل الأخطاء التي تجنبتها وقعت فيها دفعة واحدة، ولم أعرف أي ضفة أختار، وأي ضفة أنتمي إليها، كل جانب يريدني في صفه لذلك كنت في جانب الجميع وفي الوقت نفسه لم أكن في جانب أحد.
إن شاء الله لي أن أكتب هذه التجربة بإنصاف وحيادية سأفعل ذلك يوما ما، فقط إن وجدت نفسي منصفا، وقادرا على منح الذاكرة حقها في الكتابة، لا أجزم أنني فعلت ذلك كليا من قبل، ثمة انحياز ما حاضر في كتابتي، وفي سردي، انحياز يمنعني عن الكتابة بصفاء، ربما يوما ما سأتمكن من إمساك البوصلة، وسأكتب ما حدث كما حدث، دون تبرير، دون ندم زائد أحمل فيه نفسي ما لم أفعل، دون جلد للذات ومعاقبة لنفسي، ودون دفاع أو مبررات، ربما يوما ما، يوما ما.
يا إلهي! أين بدأت هذا السرد، وإلى أين وصل!!!!! لا أعرف متى سأصل إلى التصالح الحقيقي مع تجربتي، ومع ذاكرتي. ذاكرتي مليئة بالألم، وبالخيبات، وبالنكسات، كلها بدأت من ذلك القرار الذي قررته: لن أترك كلية الطب إلا من أجل حياة حقيقية، حياةٌ لا يمكن أن تُعاش إلا بذلك القربان الكبير الذي قدمته للكتابة، وأي قربان كان!!!!
لقد سرحت مع لوحة المفاتيح، كنت أنوي كتابة شيء آخر، ويبدو أن مفاتيح الذاكرة قد ذهبت إلى صناديق بعيدة، صناديق لم يحن موعد كتابتها، ولا أعرف متى سيحين؟ الذي أعرفه، أنني أدرس الآن، وأبدأ الحياة من حيث تركتها، لدي ذاكرة مشحونة بالأحداث، ونفس تحتاج للشفاء، وعقل يحتاج للهدوء، وسكينة لم أكن أظن أنني سأعيشها أبدا!
تمنيت أن أقضي هذا الصيف في الكتابة، ولكنني تعلمت الدرس المر، أن الكتابة ليست شيئا في يدي، ليست قرارا أتخذه وأنفذه، إنها كما حدث في هذا النص! شيء يحدث بنفسه، وليتها تنصفني يوما ما، وتسمح لي أن أكتب كل تلك الأيام! هل سيحدث ذلك؟ أم لن يحدث، لا أعرف، الذي أعرفه أنني لن أتوقف عن المحاولة، محاولة الحياة، والمحاولة أن أكون خيرا، والمحاولة أن أتصدى لكل التشوهات التي لوثتني.
لا أعرف كيف كانت حياتي ستكون لولا العفو السامي! أنا متأكد أنني كنت سأكون حكاية شريرة مؤسفة بكل معاني الكلمة! أنا متأكد أنني كنت سأنتهي منتحرا تحت قطار في محطة ساندويل آند ددلي، متأكد أنني لن أكمل الحياة، متأكد أنني لن أكتب. أعيش كل ما أردته من عُمان في لحظة الكتابة هذه! أعيش كل ما أردته من الحياة في لحظة الكتابة هذه! أعيش لأكتب، ولا أجيد شيئا آخر غير ذلك!
للذاكرة بقية
معاوية