أعود إلى هذه اللحظة وأتأملها. إحدى نذور صلالة التي تحدث لي سنويا، فأعود ممتلئا بالصفاء وأنشغل لبعض الوقت بأسئلة التجاوز والتعافي طويل المدى الذي أحاول أن أعيشه بمنطق صحي، وبروحٍ تسعى لتنقية النفس من الشوائب التي ترسبت فيها عبر السنين.
أقول أنني قررت الغفران! قررت التجاوز! لم أقل هذا بوعيِ الذهن الذي يفكر، قلته بالروح الكاتبة التي تكتشف ماذا كتبت بعد نهاية السطر! أتساءل حقاً إن كان ذلك ممكناً، هذه الرومانسية العاطفية! هل هي قابلة للحدوث من الأساس؟ يبدو لي أنني أريد هذا السلام النهائي، لكنه غير ممكن الحدوث، ثمَّة تراكمات شديدة، وليحدث ذلك سأحتاج إلى جهد حقيقي وكبير!
الغفران لا يعني تقبل الظلم، ولا تقبل الخيبات وعدم التعامل معها. ثمَّة خيبات يجب أن تقبل أنَّك كنت أنت السبب فيها، إن لم تكن عاملا إيجابيا ذهب إليها بمحض إرادته، ربما كنت عاملا سلبيا، تركت ثغرة واضحة في تفكيرك قادت إلى خيبات، وخسارات، وربما هزائم تضطر للتعايش مع عواقبها.
يا إلهي! كم أنا شخص مليء بالمشاكل النفسية! تعود إلى ذاكرتي كل تلك الأيام التي كنت أعيشها وأنا لا أعرف تماما لماذا أفعل الذي أفعله! الآن فقط يتضح لي مقدار التأزم الشديد الذي كنت أعيشه! الآن فقط أفهم لماذا كان يهمني أن أستفز الجميع، كان يهمني أن أصنع معركةً سهلةً، معركةً تشغلني عن الصراع الداخلي الذي مزقني لسنوات وسنوات! ما أصعب أن تكون ممزقا من الداخل، تفقد طعم الحياة، وتصل إلى حالات من الألم الشاق، فماذا تفعل؟ تفتعل مشكلةً أخرى، تبحث عن عدو جديد، تبحث عن الخصم الذي يجعلك تنسى مشاكلك الداخلية، وهكذا دواليك!
بدأ الأمر بالنسبة لي كلعبةٍ من ألعاب العبث. أنا شخص ليس لدي شعورٌ حقيقي بالعواقب، أستطيع فهمها منطقيا، لكنني حقاً، لست من الذين يهتمون بالعاقبة. عندما بدأت بالكتابة السياسية، لم تتجاوز أهمية الأمر بالنسبة لي أكثر من كون ذلك شيئا من أشياء الكتابة، مجموعة من المقالات! وماذا بعد؟ لم يتفاقم الأمر سريعا، وثمة عوامل أخرى قادته للتفاقم، لكنني أفضل أن أعتبر الأمر اختياراً سببته، بشكل إيجابي كوني ذهبت إليه، أو بشكل سلبي كوني لم أقم بمنعه.
معارك، في معارك! كل ذلك لأجل ماذا؟ لا أظن أنني وصلت إلى فهم جيد لنفسي حتى قبل خمس سنوات ربما! خمسة وثلاثون عاما من الحياة وأنا تائه ولا أعرف ما الذي أريده! معركة مع النظام الرسمي، وأخرى مع الحكومة، وثالثة مع أشخاص بعضهم يستحق وبعضهم لا يستحق، معركة وراء الأخرى، ينطلق في سماء الكتابة العمومية إنسانٌ لا يعرف نفسه، ولا يعرف ما الذي يريده! ثمَّ ماذا؟ تبدأ الفتوحات البسيطة بالتوالي.
هل لهذا السبب كنت أتعمد دخول السجن! الجميع يدخل السجن في مناطق رمادية، تجعل البعض منهم في نظري مظلوما، أمَّا أنا فلم أدخل السجن في منطقة رمادية، دخلته متعمدا وإلا فماذا يجعل إنسانا يندفع لمهاجمة السلطان، والمفتي، والسلطة، وجميع القيود الاجتماعية! نعم! يبدو لي أنني كنت أجد تلك الفتوحات المنطقية الذهنية فقط وأنا سجين! ولا أعرف متى توقفت علاقتي عن تعمد الذهاب للسجن!
يعود إلى ذاكرتي ذلك المشهد القبيح لذلك الإنسان الذي كان يتكلم بحماسة بالغة عن دخولي السجن، يمسك علبة البيرة ويبتسم ابتسامة كبيرة، بنشوةٍ بالغة، كيف أنني دخلتُ من أجل "نصرة الحق" وغيرها من الشعارات! كنت وقتهاً أستجيب لتلك التغذية السامَّة، وأصدق حقاً أنني فعلت ذلك نصرةً للحق! المثير للأسى أنني نصرت الحق مرارا، وكتبت ما أظنه نصرة للحق، ولم يكلفني ذلك دخول السجن تحت أي ظرف من الظروف! يمكنك أن تنصر الحق دون أن تذهب بنفسك للسجن!
لا أسمي الأسابيع القليلة التي عشتها في عُمان سجناً، كانت نزهة لطيفة بالمقارنة للتجربة اللاحقة الحقيقية التي عشتُها في سجن الوثبة! أظن أنني هناك قد اكتفيت من المشاغبات التي تسبب لي السجون! ويبقى مشهد ذلك المقيت في رأسي، ما أقبح أن يصفك جبان بالشجاعة! حتى وإن كان كلامه صحيحا، أو فعلا قمت بتصرف شجاع، وجود جبانٍ واحد مختبئ في طاولات الحانات يتحدث عن الشجاعة يكفي لكي تعيد النظر في افعالك!
هؤلاء أزمة حقيقية، فعلاً. يعيش في الظل، لكنه يلوك البطولات، والأمجاد، والمواجهات بلا توقف، وإن كنت غافلاً ستقع في التصديق قبل أن تكتشف أنَّ الذي يتحدث عن خسارات الكتابة، وخسارات المواجهة هو إنسان لا يكتب، الذي يتحدث عن تأثير الإنترنت على الواقع السياسي هو إنسان بلا حساب، لا يكتب مقالات، ليس له أي طرح، مع ذلك سيرفع الكأس نخباً لوقوعك في أزمة سوف تدفع ثمنها سنوات وسنوات!
لست نادما على تجربتي في الحياة، لكنني أشعر بالأسى على هذا الوعي اللاحق الذي كان يمكنه أن يجعلها أكثر خيريةً من كل الشر الذي امتلأت به. لا أنكر أخطائي لكنني أرفض أن يحاكمني عليها هذا الفضولي الذي لا علاقة له بها. تمرُّ السنوات وتتجلى لي حياتي أمام عيني، وأقترب كل يوم من النظر لها بإنصاف، ثمَّة تحيزات تلاحقنا، بعضها نتيجة البحث الزائد عن السلامة، وبعضها نتيجة البحث الزائد عن السلام، ثمَّة ما بين ذلك ما هو حقيقي، وهذا الذي يجب أن أشتغل عليها بجهد ذهني حقيقي لأصل إلى هذه الخلاصات النقية!
أشكُّ الآن في كل شيء، أشكُّ حتى أنني كنت ملحدا حقيقياً. كيف لملحد أن يرفع نعالاً في وجه من يتفوه بحرف عن النبي محمد! وماذا كنت أسميه؟ مختلف الصفات والتسميات التي لا تخرج عن احترامي الشديد له كونه قائدا حقيقيا، ومعلما للأجيال، وفارقا في صناعة التاريخ! فلتسمه النبي، ولكن لا! ثمَّة شيء أعمق نفسيا في تلك المشكلة، لوثة ما تجعل الصدام أكثر سخونةً، وحقا حدث! ولم تكن عواقبه وخيمةً كما كنت أتمنى.
كان ذلك في عام 2012 عندما بدأت أشعر أنني أريد العودةَ إلى ما كنت عليه من اطمئنان واستقرار، ولكن هيهات! كل الصدامات التي كنت أعيشها وأفتعلها قد أخذت من طاقتي وقوتي وتركتني مرهقاً، وكئيبا. كنت لا أبالي بكل ذلك، فقط تلك الحقيقة المرة أنَّ بعض الجبناء يتغذون من تلك الهزائم هي التي دفعتني للاستيقاظ ومحاولة النهوض من جديد. ولم يكن ذلك سهلا على الإطلاق، كانت أمامي معارك داخلية مؤلمة بمعنى الكلمة. ومن الأساس، الإدمان على المخدرات لا يجعل المعارك الخارجية أو الداخلية أسهل.
استفزاز السلطة هو الطريق الأسرع لدخول السجن، كنت بارعا في استفزاز السلطة عدة مرات. أضحك كلما أتذكرُ الوضع الذي بدأ فيه التحقيق:
بكل ما في الاشتعال الذهني الحاد من جزافية ولا مبالاة أقول للضابط الذي يحقق معي: شكرا لاستجابتكم، كنت أنوي المزيد من التهور ومن الجيد أنكم استجبتم لي في الوقت المناسب!
يا إلهي يا معاوية! هذا حدث حقا!
الآن فقط أرى كل هذا الذي حدث بوضوح ما بعد الحدث! خارج إكراهات الضغط الاجتماعي والسياسي، بعد خمس سنوات من الاستقرار أستطيع أن أفهمَ لماذا كان يحدث ما يحدث. أسوأ ما فيه هو أكلة الجيف، أولئك البشر الذين يتفننون في نهش الجريح، وفي عالم السياسة هو وضع لا تريد أن تكون فيه! وضع لا تريد أن تكون فيه أبدا، وضع إما أن يقتلك أو أن يجعلك قاسيا للأبد، ولا أعرف متى سأفلت من قسوتي، ولا أعرف متى سأتخلص من أحقادي! حقاً حقاً لا أعرف، الذي أعرفه أنَّه لتغفر لنفسك يجب أن تغفر لغيرك، تغفرَ روحيا، تغفر لأنك تتقبل أن كل إنسان يخطئ، وأنَّ الذي حدث قد حدث، وأن عليك أن تتجاوز لتكمل ما تبقى من أيامك بسلام.
أحبُّ هذه الحياة الطبيعية، الهادئة. أحب حقيقة أنني لست عبئا على عائلتي، أحب حقيقة أنني لست ذلك المتهور الذي لا يعبأ أن يدخل السجن، أحبُّ هذا الواقع الجديد الذي لا أشكل فيه سوى فردٍ آخر، أحبُّ فكرة أنَّه لا يوجد شامتٌ يتلذذ بدخولي في أزمة جديدة، لكنني لا أحب قسوتي، لا أحب هذا العقل المحض القادر على الإيذاء، لا أحب تربصي، لا أحبُّ أن أعامل كنقي وأنا لست نقيا، ولا أحب أن أعامل كإنسان طيِّب وأنا لست طيبا! لا أحب هذه الشرور التي تعصف بعقلي، لا أحب هذه الكراهية، ولا أحب استعدادي الحارق للانتقام من الذين أوقعوا الأذى وأنا ظننتهم مصدرا للحلول لمشاكلي! ألوم نفسي على غفلتي، ولكنني أيضا لا أستطيع الغفران! يا إلهي! حقا لا أستطيع الغفران!
أنا مستعدٌ لدفع ثمن خياراتي، لكنني لست مستعداً لتقبل أن يحدث ذلك من غرباء لا علاقة لهم بحياتي. مستعد للاعتراف بالخطأ لكنني لست مستعدا لتقبل المحاكمة من الذين لم يؤذهم هذا الخطأ، مستعد للاعتذار لمن أخطأت في حقه لكنني لست مستعدا للتبرير لمن لم يصب مني بسهم من سهام الخطأ المقصود أو غير المقصود!
يبدو أن الطريق طويل أمامي، ولا أظنُّ أنني آمنٌ لذلك الحد من غوائل الخصوم والأعداء، لا أظن أن حياتي سهلة إلى هذا الحد الذي يجعلني أؤمن بالغفران كخيار رومانسي ممكن. ثمَّة حد أدنى من الشر يجب أن أحتفظ به إن أردت مواصلة الحياة بسلام، يبدو لي الآن فقط أنني أتمنى لو كانت حياتي أقل تعقيدا من كل الذي حدث، ولكن هيهات! بعض الخيارات تدفع ثمن أحقادها لنهاية العُمر.
أسأل الله أن يحميني من الشر، من شر نفسي ومن شر غيري، أسأل الله أن أعيش في سلام وفي أمانٍ بعيداً عن الضرر. لا أتمنى أن أضطر لإيذاء إنسان، وأعلم جيدا أنني لم أعد إنسانا يوقع الضرر عشوائيا، هذا الذي لا يعلم حجم الضرر الذي يسببه به من النقاء الإنساني ما يجعله يؤذي نفسه وغيره. ليتني كنت بهذا النقاء، ما صرت إليه بعد كل هذه التجارب أشدُّ شراسة، والضرر الذي يقع من الإنسان الذي يمكنه السيطرة على انفعاله أشدُّ من أي ضرر سببه الغضب! أعوذ بالله من كل هذا الشر!!!!
لا أظن أنني دخلت لحظة كتابة جيدة، أو نافعة، أو صحية، يبدو لي أنني أستدعي الأحقاد الميتة، ولذلك أفضل أن أغلق هذه اللحظة وأن أتمنى لحظة أفضل تقربني من هذا القرار. حتى هذه اللحظة، كل الذي يحدث هو صراع مجادلات، مرافعة بيني وبين نفسي، ويبدو أن النفس المعبأة بالغضب هي التي انتصرت. لا بأس، لنا موعد جديد يا نفسي، وربما لي فتح جديد يوصلني إلى خلاصة أجمل من التمسك بكل هذه القسوة التي حقا، حقا لا أحبها!
للشعور بقية