بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 22 يوليو 2025

الرسالة رقم 4: حديث القلوب!

 

الرسالة رقم 4: حديث القلوب!

ابني الصغير: المُلهم

أبوك اليوم بين المطرقة والسندان. مطرقة من الزهور، وسندان من الزمن. ألاحق الوقت، والجهد، والزمن للعناية بك بأقصى ما يمكن للوعي العلمي أن يقدمه لي من إجابات. كل شيء جديد، كل شيء بلا استثناء، ولا سيما الجوانب البيولوجية الحتمية التي ما أن أكتشف جانباً منها إلا وتتجلى لي جوانب أخرى. نفحاتك النورانية بدأت مبكراً يا صغيري، من حيث لا أحتسب، ومجيئك كان النقطة الأخيرة في نهاية السطر تجاه مشكلة أزلية يعاني منها أبوك منذ سنين وسنين.

هل الوقت مبكر لأخبرك عن مشاكلي؟ وعن حكايتي في الحياة؟ الحكاية التي يجب أن أسرد لك تفاصيلها بصدق، بما يكفي ليشهد عليها الشاهد العدل؟ هذا مهم في هذه الحياة عندما تكون ابنا لإنسان عاشً يوما ما إشكاليا. بقدر ما يرهقني هذا الأمر، يدهشني أيضا هذا الوعي الاجتماعي العُماني الذي يؤمن ألا تزر وازرة وزر أخرى. هذه البلاد التي كنت أضيق ذرعا بروحها المحافظة يبدو أنني أتحول إلى أحد أبنائها المحافظين. شيء من أشياء عُمان سوف تتعلمه مع الوقت عن بلادك التي ستحملُ اسمَها. لعل هذا أحد أهدافي من هذه الرسائل، أن أهيئك عبر مراحل الوعي التي تصل لها ليكون معك هذا الدليل الإرشادي التربوي الذي إن لا سمح الله خسرت أباك فعلى الأقل ترك لك ما يعينك على فهم زاوية الحياة من منظور أبيك. هذا الأب الذي يجب عليه أن ينحتَ من هذه اللحظة نظريةً تربويةً علميةً يسير عليها لكي لا يورثك مشاكله، ولكي يجنبك اختلاطاته الخاصة به، جئت بك لهذه الحياة لكي أفعل أقصى ما بوسعي لكي تعيشها على أفضل المتاح من الظروف والقدرات، لن يصح أن أكون الآن طالب علم نفس وأعلم جيدا عن الصدمات العابرة للأجيال، وأعلم جيدا طريقة تجنبها، ولا أفعل ذلك! ليس منطقيا أبدا أن تعرف ولا تلزم!

عرفتُ فألزمُ، هذا ما أفعله وأنا أتعلم بلا توقف عن طرق التربية الجيدة. أما أن أستشير الآخرين في شأنك! هذا آخر ما يمكنني أن أؤمن به، إن احتجت سوف أستشير واحدا من طابور متخصصي علم نفس النمو الذين أعرفهم، وإن فشلت معرفتي وقدراتي البحثية في الوصول لإجابة أو طريقة تربوية سأذهب لمختص أكثر خبرةً. الجدعنة الاجتماعية شيء لن أقبله أبدا عندما يتعلق الأمر بك عزيزي الملهم، أنت وإخوتك. هذا ما تعملته حتى الآن، وما تقرره التجربة، أبٌ جديدٌ، يحاول التأقلم مع الدوافع والظروف الجديدة، ويجد حلولا لأكبر قدر من المشكلات التي يجب كل الوجوب ألا تكون أنت الذي يدفع ثمنها، إلى أي مدى أن مستعد لحمايتك؟ إلى أقصى مدى ممكن. وإلى أي مدى أنا مستعد للعيش لأجلك؟ لأقصى مدى ممكن. هذا ما أملاه عليَّ الرابط الفطري الذي يتعلق بكوني أباً لك، متيقن أن الطريق يحمل روابط معقدة أكبر من رابط الحماية والعناية. ما لا أعرفه، لا أعرفه، حتى أعرفه! هكذا ببساطة تسير الحياة بين ما نجهل وما نعلم، ربما لذلك علينا أن نعرف ما نجهله أكثر من تركيزنا على ما نعرفه.

دعك من هذا التفلسف. إنني أحاول الكتابة قدر الإمكان لتأجيل مذاكرتي لامتحانٍ أخير غدا، بعدها تبدأ ملاحقة لقمة العيش، والعناية بك بشكل حقيقي. حتى هذه اللحظة، لم تمنعني مشاغلي عن زيارتك يوميا والوقوف على شؤونك، لكنها منعتني عن الجلوس في لحظات التعلم الذاتي الخاصة بي لأعرف أكثر عن تربية الأبناء، وعن نموهم في المراحل الأولى، وعن مناعتهم، والغازات، والنوم، والتنظيم، والترتيب، معلومات علمية بسيطة تغني عن التجربة والخطأ. المفهوم الجديد الذي تعلمته هو مفهوم (التحكم) وكيف يمكن أن يبدأ مبكراً فور إتاحة مدى معقول لحركة الرقبة، معلومة بسيطة، ولها فوائد بسيطة، قد لا تُذكر بالنسبة للراسخين في علوم التربية لكنها تعني الكثير لي. إمالة زجاجة الرضاعة، نوعية التدفق، وأنواع البكاء، كلها أشياء جديدة للغاية عليَّ، والحق يقال هذه ليست من المهمات التي يجب أن أفعلها أنا نظراً لتكويني البيولوجي الذي ليس مريحا من الأساس لك لتقضي وقتا طويلاً نائما عليه، فطرة فطرها الله وأرى تكوينها العجائبي يتجلى في ما اختصَّ الله به لنفسه فقط، (الخلق) وأنت مخلوق من مخلوقات الله، أودع الله فيك أسراراً كما أودع فينا أسراراً، وذاتَ يوم بإذن الله عندما تكون أبا، وعسى وقتها أن تجعلنا جدا سعيدا للغاية بك وبحياتك، ستتذكر ربما هذا المقال وستقول: لقد قال أبي ذلك في رسالته الرابعة لي؟ أن كل هذا مختزن بنا، نكتشف وجوده السابق بنا. رغم أنف المادية المفرطة في اعتبار الإنسان كتلة من التفاعلات المادية، ثمَّة ما هو عميق بنا، وما هو مدهش، وأي شيء أكثر دهشة من ما قدّره الخالق الحكيم في خلق البشر! ومجددا، أي كلمات تصف المشاعر المتعلقة بذلك؟ لا كلمات تكفي، لأنها كلمات لم توضع في لسان بشر بعد!

أشعر بالإرهاق الشديد، منهمك للغاية في كل شيء حولي، أشياء ربما لن أحبذ كتابتها في هذه المدونة لوجود عامل الغرباء بيننا في رسائلنا، وهذه الرسائل لا تخلو من العلنية لذلك لن تخلو أيضا من اعتبارات وجودك الاجتماعي الذي أطور الآن مفاهيمه الأولى. لا أريد لهذه الرسائل أن تخلط الحابل بالنابل فيما بيني وبينك، لذلك، ثمَّة كثير لا يكتب، ثمَّة كثير لا يقال، وثمَّة أيضا دفتر سري آخر أكتبه لك لتقرأه أنت فقط، كيف أدبر استلامه وتسليمه لا أعرف حتى الآن! ربما سوف تأخذني ظروف الحياة إلى المنطقة هذه مبكراً إن ساءت صحتي، وربما بإذن الله تسير الحياة بلطفٍ وسعادةٍ، كل هذا محتمل، لا أحد يحدد قدره.

تحسنت رغبتي في الكتابة بعد مجيئك. وأيضا حققت شيئا جيدا للغاية اليوم في حل مشكلةٍ من مشاكلي الصغيرة. مشكلة التركيز التي أخيرا وجدت حلَّها الدامغ. كان شعورا غريبا للغاية أن يهدأ عقلي تماماً، وأن أشعر أن زحام الأفكار التي به، والطنين الهائل الذي يتلاحق بلا توقف قد هدأ! مشاعر جديدة للغاية، والأهم وضع ذهني إدراكي سوف يسمح لي بتحمل الفوضى التي حلّت على حياتي نتيجة توافد أولويات جديدة على طاولة الوقت. تراودني فكرة صغيرة! الآن، لأدمج رغبتي في الكتابة مع رسائلي لك، ربما أطبقها في تدوينة قادمة، وربما لن أفعل، حتى هذه اللحظة لا أعرف خطتي من هذه الرسائل، أعرف جيدا أنني أريد أن أكتب لك، وأريد أن أترك لك مجموعة من الكتب الصغيرة ترافقك في حياتك، إن لم تمكنك في حل بعض المشاكل التي تواجهها على الأقل سترشدك إلى منبع المشاكل التي جاءت من الجيل الذي لم تعش فيه، أرجو في زمانك إنك لن تعيش مشاعر الحسرة على الإبادة التي تحدث في غزة، وأرجو في جيلك ألا تكون كتلة سرطانية قبيحة اسمها إسرائيل موجودة على الخارطة، وأرجو في زمانك أن يكون الطب قد تطور لأستطيع الحياة معك لسنوات إضافية أكثر. كلها أحلام وآمال لأب وأنت عمرك أسبوعان.

حسنا يا عزيزي، أبوك حائر حتى هذه اللحظة عن العُمر الذي ستقرأ فيه هذه الرسائل، لذلك لا أستطيع منحها سياقاً واضحا، ربما لأن السياق من الأساس غير متضح لي. ثمّة شعاع ما من المعنى أستشعره وأنا أكتب والكلمات تتكون أمام عيني، شعاع طفيف من الحب والوعي، شيء ما من أشياء الغموض في النفس، شيء جميل، يسمح لي الكتابة، ودائما عندما تولد الكتابة من طيّات اللاوعي هُنا اكتشاف الأشياء، وهنا ترسيخ الوعي الصحي، وهُنا أصبح بخير، كما أتمنى لك دائما أن تكون أيها الملهم العزيز. أبوك يحبك كثيرا، دمت في حفظ الله يا ابني العزيز.

أبوك المحب

معاوية

22/7/2025