وفرصة، وجودية، في وجودك يا صديقي، صديق عام 2002، وجماعة الخليل للأدب، والقصة العجيبة التي حدثت! والتي لا ألوم الشخص التي يظنها من نسج خيالي، وما أعجب حقائق حياتي، تبدو تأليفا عندما تسرد!
هذا الصديق، شهد على حكاية غريبة! صفعة قدرية عجيبة! في تلك الفترة التي كنت أتمايل فيها بين الإيمان والشك، ولا أظن أنه كان شكا بقدر ما كان مقاومةً للطمأنينة، مقاومة لليقين! ومتى! دون تخطيط، ولدي هذا الشاهد العجيب الذي تقاسمنا دهشة الصدمة معا!
ضمن النوادر، يزورني هذا الصديق وأنا في بريطانيا! ومتى ذلك، مباشرة بعد حياةٍ في النيبال مع تطبيق صغير للذاكرة طفقت أحفظ فيه صفحة من القرآن وأسمعها كتابةً، أنهي في سكن اللاجئين الصفحات الأخيرة، وماذا يفعل معاوية! بكل نزق الحرية المجانية المتاح أعلن حفظي للقرآن الكريم، وأعلن إلحادي، وإيماني في اليوم نفسه، تمزقي الذي أثار السخرية والتأمل، ولحظة [غرشة الفودكا] التي أخرجتها وأنا أعلن في قلبي نوبتي الهوسية الكبرى كُل ما أعجز عن فهمه! ربما حتى هذه اللحظة! ولكن ليست هنا الحكاية، ليست تأملاتي لحالتي المرضية، ولا لجنوني، وإنما لواقعي الغريب الذي لا يخلو من العجائبية!
طالب لجوء مفلس، بلا نقود، بلا أصدقاء، ويزوره هذا الصديق مشفقا على حاله، لا يعرف ما الذي يفعله مع صديق شاعر أردت به الحياة إلى ذلك الحضيض العلني، والفعلي. ألوك الألحاد متمسكا به كقناعٍ ضروري، وألوك الإيمان متمسكا به كحقيقة أتمناها، ونخوض النقاشات، وهذا الصديق المشفق يسمع، وأقصى آماله أن يعيدني إلى لحظةٍ من الحياة والصداقة، نمشي في نفق طويل، يخبرني عن مجموعته القصصية، يذكرني أنني كاتب، وأنني شاعر، وأنني معاوية الذي لا يموت، معاوية الذي يعرفه أصدقاؤه القلة ويجهله كله الذين يعرفونه تقريبا! وماذا يحدث!
ينصحني مشفقا عن الإدمان، نقطع الطريق إلى كوفنتري بالقطار، وأنا ككل مدمن أقول له: أستطيع أن أترك الماريجوانا لو أردت، لكنها تنفعني، وأردد الأكاذيب الاعتيادية لكل مصاب بالذهان بسبب التعاطي المفرط، إنها تساعدني للتغلب على الاكتئاب!
أنهمك في مأساتي في الحياة، ويسمعني هذا الصديق بلا توقف، ويحاول تذكيري بأنني ما زلت معاوية، الكاتب، الشاعر، لكن هيهات، كنت مشغولا بكل شيء، هاربا من حقيقة أنني خسرت عُمان، وخسرت ذاتي، وخسرت نفسي، وخسرت عائلتي، وخسرت أبي، وحتى الخط الأحمر الذي لم أكسره، أمّي التي تناديني كبير الشيمة قد بدأت بالهجوم عليها علنا! وصرت أسميها [لعنة الوجود] وألومها لماذا جلبتني للحياة! الشعور العارم بالحقارة، وأنني نذل قليل الأدب، وفي الوقت نفسه الشعور بالدهشة، وكيف يخالف لساني حقيقتي، المرض الذي يخاف الناس من جهلهم به، أعيشه، وفوق ذلك! ماذا فوق ذلك!
الأطباء هناك يذهبون إلى تشخيص آخر، هذا المريض الذي أخيرا أراد أن يأخذ أدويته يذهبون به إلى تشخيص آخر، جلطة أخرى من جلطات الحياة، فهم يرون أنني أتوهم، أتوهم أنني كاتب مشهور في بلادي، وأتوهم أنني كنت اعمل في جهة سرية للغاية، وأتوهم أنه تم اعتقالي في سجون مخابرات دولة أخرى، وأتوهم أنني كتبت خبراً عن حدث سياسي كبير قبل أن تعلنه بلادي، وأتوهم أنني كاتب ومؤلف لستة كتب، وأتوهم قصة حياتي التي سردتها بكل شفافية للطبيب الذي قرر أن يضعني في جرعة ضخمة من مضادات الذهان! أحاول الشرح بلا فائدة!
كيف تشرح الفارق الثقافي بين بلادين! لا تعرف! كيف تشرح له أن هذه الحكاية ممكنة لأي شخص لديه حساب في تويتر! لا فائدة، ويزورني هذا الصديق في خضم المعمعة، مشفقا علي من هوسي، وإدماني، وبنطالي القديم، وإفلاسي، ويحاول أن يعيد لي شعور الحياة.
وقتها قد انفلت لساني من عقاله، شتمي للشيخ أحمد تجاوز الشتم، وطبعا المرحوم السلطان قابوس، أشتمه، ثم أبكيه، ثم أعتذر له، ثم أبي، ثم أمي، ثم أخي، وعندما أندم أشتم نفسي، وأتفرغ للعدد القليل من الذين ظلموني حقا، ثم أندم، ويختلط علي الشعور بالظلم والرغبة في أن أكون ظالما، وهذا الصديق يشهد على تلك المعمعة، وكان الله خطي الأحمر، بقلب ممتلئ بالإيمان ولسان ممتلئ بالنكران، ويختلط الجنون بالأفكار والمرض، ولكن ماذا حدث! لرحمة الله ألف طريقة في الحدوث!
أصل كوفنتري، ومعي هذا الإنسان الذي لن أنسى صداقته ما حييت، وفجأة يقطع طريقي إنسان بشعر أحمر اللون، يقصدني من بين الجميع ويقول لي: هل تريد تدخين الماريجوانا!
مدمن حشيش، وينزل عليهم من السماء شخص يعرض عليه! حاول عبد الله إثنائي عن الاستجابة له فقلت له: لعله يريد بيعي! لا شيء سيمنعني من الحصول على جرعتي الإدمانية!
ولم يكذب الغريب خبرا، يحاول عبد الله إثنائي عن الذهاب معه، ولكنه كان شخصا لطيفا، جلب الكمية قمت بلفها بطريقتي المتقنة، وبدأت أدخن، كان عبد الله يتململ وكاد أن يتركني أنا وإدماني وذلك الذي معي، ولكن حدثا ما جعله يبقى ليشاهد الحكاية بعينه للنهاية.
يقول ذلك الغريب أشقر الشعر: أريد دخول الإسلام!
صدمة هائلة تجتاح كياني: هل أنت متأكد؟ لعلك اخترت الشخص الخطأ الذي تطلب منه هذا الطلب!
يجيب: لقد رأيت شيئا ما بك! أريد أن أدخل الإسلام؟ أنت مسلم أليس كذلك؟
أتلعثم في الإجابة، وقتها لم أكن أعلم أنني مسلم! لم أكن أعرف! للتو انتهيت من حفظ القرآن بطريقتي، وسمعت كل صفحة من صفحاته كتابةً، ويسألني شخص: هل أنت مسلم!
قلت له: عشت مسلما بما يكفي؟ ولكن لماذا تريد دخول الإسلام؟
قلت له: أنا منذ أسبوع لم أتوقف عن الهجوم على الدين والإسلام والذات الإلهية! هل أنت متأكد أنك تريد أن تعرف عن الإسلام مني؟
قال: رأيت بك شيئا ما، وأظن أنك الشخص المناسب، هو شيء رأيته بقلبي!
عبد الله ترك وضعية الصديق القلق وانهمك في مشاهدة تلك الحكاية العفوية وهي تتخلق أمام عينيه، ولولا أنه كان معي، ولولا أنه من الآمن جدا أن أسردها الآن لسردتها منذ زمن بعيد!
أدخن سيجارة الماريجوانا، ويهدأ عقلي قليلا، ويدخن ذلك الغريب معي، وتنتهي السيجارة وأدخل في ذلك الوضع العجائبي، أشرح له عن الإسلام، وأقول له عن شروط الشهادتين، وعن التطهر من الجنابة وكما يفعل أي مسلم عُماني قرأ تلقين الصبيان أشرح له بحماسةٍ عن الإسلام، والدخول إليه، ومتى يعلم أنَّه مع مسلم صالح وليس مع مسلم يودي به للتطرف والجحيم، أشرح له عن الرحمة في الإسلام، والعفو، والغفران، كنت أقول له من قلبي كل ما تمنيت أن يقوله لي شخص آخر!
يسمعني الغريب، بإنصات تام، ولا تعلم أين يحل عليك الإيمان، حتى وأنت في لحظات تتوقعها خارج السياق الكوني، تحل علي طمأنينة غريبة! وأنشغل بتعليم ذلك الجديد على الإسلام دروس الدخول لهذا الدين العجيب! أعاود سؤاله: هل أنت متأكد أنك تريد دخول الإسلام على يدي؟ أنا آخر شخص ممكن أن تسلم على يديه!
يقول لي: متأكد، رأيت بك شيئا ما! شيئا ما نورانيا!
عبد الله يوسع حدقتي عينيه، وأنا أوسع حدقتي عيني، كان شيئا خارج التوقع! ذلك الذي يحدث، أنهي شرح الــ [Induction] الكلاسيكي لمن يدخل الإسلام، ثم تحين اللحظة الكبيرة، أشرح له وأعطيه بعض المصادر التي يتعلم منها إسلاما خاليا من التمذهب، وينشرح قلبي وكأنني أنا الذي كان يسلم معه لأول مرة، تحين اللحظة الكبيرة وأقول له: هل أنت جاهز لقراءة الشهادتين؟
يقول لي نعم:
لا أعرف من أين جئت بذلك الطقس، لكنني أمسكت بيده وكأنني [ملّيك] وقلت له: أشهد، ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله.
كان يقرؤها معي، وكنت أشعر أنني أنا الذي يسلم وليس هو! انشرح وجهه بعد قراءة الشهادتين، وأنا أتبادل النظرات مع عبد الله الذي استجاب لغرائبية تلك اللحظة، وأنها لحظة تأتي هكذا من الله، لذلك اللاجئ الذي أراد بشدة أن يكون ملحدا، لكن هيهات! في رحمة الله ما يفوق رغبة البشر على الضلالة، وفي هداية الله ما يفوق رغبة الذهن على التيه!
ينشرح وجهه، ينشرح وجهي، عبد الله يتأمل الموقف بعين السارد، والمفكر.
يخرج الغريب ذو الشعر الأحمر صليبا من رقبته ويقول لي: أما وقد أسلمت، وصرت مسلما، هل يجوز أن ألبس هذا؟
أصاب بالحرج، وددت أن أقول له لا بأس، شيء ما منعني، قلت له: لعل إخوتك من المسلمين لن يروق لهم ذلك، أعدك أن أحتفظ به معي، وأن يبقى في مكان أمين!
يهديني صليبه، آخذه معي!
كنت أنتظر أن يقول لي: هل تريد شراء ماريغوانا! كنت أنتظر خدعة ما لتحدث، كنت أنتظر أي شيء ينفي أن شخصا اختارني من بين جموع الغرباء العشوائيين ليدخل الإسلام على يدي! لكنه لم يفعل، لم يلبس علي تلك اللحظة التي لن أنساها ما حييت، ولا أظن أن عبد الله سوف ينساها.
رحل مُسلماً، أسلم على يدي، اختارني وقدم لي هدية، ومنذ ذلك اليوم وأنا أسلمُ أكثر وأكثر.
طفقنا نناقش ذلك الحدث أنا وعبد الله، وحتى أكبر المتدينين في عُمان ينظر لي بعين الشك، وكأنه يقول في نفسه: "لعله يكذب، أو في أفضل الظنون لعله يتخيل هذه القصة" لكنها حدثت، ولا تفسير لدي، ولا إجابة، ولا أريد تفسيرا، ولا إجابة، أعرف في قلبي لماذا حدثت تلك اللحظة، ولماذا في ذلك الموعد!
لا أعرف دهشة عجائبية تجاوزت أنني رأيت ثلاثة أحلام في السجن ووقع منهما اثنان تتجاوز دهشة تلك اللحظة مع الغريب أشقر الشعر! كنت مرتبكاً أحاول توثيق اللحظة، لكنني لم أعرف كيف أتعامل معها.
الآن فقط، أعلم أن هداية الله تفوق إدراكنا، وأن تثبيته لنا يفوق هلعنا، وأعلم أنني بعدها رغم سفالة عقلي أحيانا، ورغم فداحة ظنوني أحيانا، لن أتجاوز تلك اللحظة التي يختارني فيها ذلك الغريب ليدخل الإسلام على يدي!
حكاية لا يمكن تصديقها، ولا ألوم من يكذبها، لماذا شاء الله أن يكون معي هذا الشاهد! ولماذا تشاء الظروف أن أكتب عنها في هذه اللحظة، لأهدأ، لأنسى ألم الدسك الذي رحل مع سطور السرد، ولأعاود الإمساك بخيوط اللغة في عقلي، ولأعاود طرح هذه الدهشة على هذا الصديق الذي زارني في بريطانيا، ولم يعبأ أنه يزور ملفا سياسيا مشحوناً بالأزمات!
لهذا يعني لي عبد الله الكثير، ليس فقط لأنه زارني في غربتي المرة، وأنا بلا أدوية، يلعب بي ثنائي القطب لعبا، ويلعب بي الإدمان، وتلعب بي الظنون، لكن لأنه عاش هذا الحدث الفارق معي، هذا الحدث الذي لا أعرف له تفسيرا، لكنني أعرف أنه من رحمة الله بي، والآن فقط أكتشف أنني عدت للإسلام بعد تلك اللحظة، وأنني نطقت الشهادتين مصدقا ومؤمنا، ورغم فداحة عدم التزامي، ورغم أنني لست متدينا، لكنني أعلم أنني مسلم، والآن فقط تنفلت هذه الحكاية من أصابعي وكأنني أفهمها للمرة الأولى، وأكتبها للمرة الأولى! ومجددا، ضمن كشوف صلالة المتوالية التي لم تحرمني يوما من التذكر، والفهم، والكتابة!
سبحان الله!