ياخي تراه شيء يغيظ! وما شيء يغيظني بشكل عادي، يغيظني بشكل شخصي، لأني اشتغلت موظف توصيل، وبالنسبة لي هذا الموضوع يخص مهنة حبيتها واشتغلت فيها بمتعة تامَّة.
عشان أوضح السياق، في بريطانيا قبل لا أبدأ أدرس في الجامعة كنت أشتغل في مهنتين:
الأولى: موظف توصيل بالدراجة الهوائية، وبالمناسبة ما تفرق بدراجة ولا بسيارة، المهم إنك توصل الطلبية ولك أجرك حسب الوقت.
الثانية: موظف فرز بريد، وهذا الشغل مرهق، لكنه يجيب فلوس حلوة توصل إلى مبلغ خمسين ريال في مناوبة واحدة.
خلونا في شؤون المهنة الأولى، اللي هي مهنة التوصيل. التدريب مالنا كان واضح، توصل الطلبية لحد باب البيت. يعني مطر، ولا شتاء، معي قفل للسيكل، أوصل، أطلع العمارة، أوصل لباب الشقة بعدين أتواصل مع العميل.
هذي أخلاقيات المهنة، وهذي شروطها، أحيانا تتصل بالعميل وأنت في الطريق عشان تسأله لو كان يقدر يلاقيك، هذا ممكن، بس ما ملزم العميل إنه يلاقيك.
ما دام الرمز البريدي واضح، والشركة أصلا تزود التطبيق بتحديثات عشان تصلح الوصف، واللي مرتب ومنظم يسوي في حسابه شروحات عشان تتجنب الأخطاء الشائعة.
ما أعرف هل أنا مغتاظ من الدسك اللي جالس كأنه سكين تضرب لي جهازي العصبي، ولا مغتاظ من الديليفري اللي يقول لي: أنا واصل تحت!
أقول له اطلع وصل الطلب وهذا الوصف وهذا الطابق! يرد علي: أنا تحت!
طيب أنت تعرف ظروفي؟ تعرف إني ملتعن لعنة يعلم بها الله! تعرف إنه ألم الدسك يكاد يشبه ألم الضرس! لأ، ما تعرف لأنك ما تعرف إنك جالس تظلم زميل سابق لك في نفس المهنة، جالس تظلم إنسان يجد صعوبة إنه يجلس زين، بس همَّك إنك تشوف عميل ما يعرف حقوقه عشان توفر على نفسك الطلعة اللي تقوم بها بحقه القانوني!
حق العميل القانوني، ما المهني، ولا الأخلاقي، القانوني إنه يوصل لباب بيتك، أما سالفة تقول له أنا تحت في العمارة! هذي ما تستوي، ولو العميل ما عطاك رمز الدخول تتصل به ما عشان تقول له: انزل ما معي رمز دخول.
تتصل به عشان يفتح لك الباب، وتطلع!
وأوقات عادي تطلع لك حرمة عجوز طالبة خدمة توصيل في التطبيق في شيء وآخر شيء تعطيك قفص فيه سنورة عشان توصلها بيت بنتها، من حقك ترفض، وممكن تكون طيب وتودي السنورة لبيت بنتها لأنه الحرمة العجوز معها مواعيد في العيادات!
ما علينا! المهم إني معصب، معصب على هذا الزميل اللي سوى لي سالفة، معصب عليه لأنه ما يفهم إنه هذي من أجمل المهن في العالم، وإنك تروم تسمع كتب الدنيا، وتحفظ لزوميات أبو العلاء المعري، وتروم تشغل صفحة قرآن وتعيدها عشرات المرات، وتروم تسمع أغاني راب، وتروم تعيش تأمل واسترخاء هائل وبعد عن القلق الإنساني لأنك اخترت مهنة التوصيل، لأنها مهنة فيها تأمل، وفيها هدوء، لما تحترمها، وتحاول تستفيد من فوائدها، ومن طبيعتها.
لكن تجلس تدور أي وسيلة عشان تخلي العميل اللي ما عارف حقوقه يجيك عشان ما تنزل من السيارة، هذي ما اسمها مهنة توصيل، هذا اسمه قلق، وهذا اسمه إنك ما جالس تستفيد من هذي المهنة. وسواء بسيكل، ولا بسيارة ما من حقك تغبن العميل حقه القانوني!
ونعم، أعرف إنه شيء عملاء دوار راس، وشيء عملاء يتصل يواصفك المكان خطأ، وشيء شركات ما تعتمد نظام المكافأة بنظام الساعة، وشيء ظلم، وشيء ناس مسجلين في التطبيق بأسماء ناس ثانيين، وبالتالي ما يظهر معه النظام، وشيء مندوبين يتبادلوا الطلبيات، نعم كله هذا وارد، وما باغي أجادلك فيه عزيزي القارئ، كله هذا صحيح، وكلامك صح.
اللي أعرفه إنه ألم الدسك يخلي الموضوع عاطفي، ويخليني أعيش ذلك الشقاء الفلسفي تجاه عدم صوابية العالم، ويخليني أشتاق هذاك اليوم اللي كنت فيه بصحتي وأسوق سيكل خمسين ميل في اليوم وأنا أنتقل في عوالم ويست برومتش، وأكتشف كل الاختصارات في الأرصفة، وأوصل الأكل ساخنا، وأحصل نظرة الاحترام وأنا لابس طبقات ضد الريح وضد المطر وأطلع الأكل من الحاوية الحافظة للحرارة العالية الجودة، وللآن صوت ذلك الإنجليزي الذي يستلم أكله ويرى دراجتي ال[Specialized] ويسألني بدهشة: "هل حقا جئت بدراجتك هُنا؟"
أقول له: نعم!
يقول لي باحترام: "Fair play"
وكأنها شهادة التقدير التي لن تزول من ذاكرتي!
عشان كذاك عزيزي الديلفيري، نوبة ألم الدسك، والشقاء الوجودي الذي اشعر به يجعلني ألومك حقا! ألومك لأنك ما فاهم إنك في مهنة تستحق الاحترام، ومهنة يمكنك أن تصنع منها قيمة التزام، وقيمة مهنية لكنك مستكاود دقيقتين وتحاول تستدرجني عشان أنزل أستلم الطلب منك، ما علينا، لو كنت بصحتي كنت نزلت لك، لكن حاليا باسم كل الدسك الذي يفتك بعقلي: إخص عليك!