بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 27 أغسطس 2024

إنها دهشة أخرى!

 لا أعرف ما الذي يحدثُ لي، لكنني أعرف السبب، وأخبئه عادةً في مكانٍ بعيد عن الأنظار حيث لا يعبأ أحدٌ بمعاوية الذي هُناك. لا أعرفُ بالضبط ما الذي يحدث بي، لكنني أعلم أنني تغيرت للأبد، وعرفتُ أخيراً هذا الذي يسمى حياةً طبيعيةً، وتحدياتها، والعُمر، وصعوبته، والصحة، وتقلباتها، والتغيير، وسننه وقوانينه.


أتخيل أحياناً أنني أشبه هواتف الآيفون، وأن تحديثا جديدا ينزل على وجودي وحياتي وتفكيري كل عدة سنوات! والعجيب في المسألة أنَّ هذا الذي يحدث حقاً، أدخل في حالة هلعٍ شديدة، وقلق يمتد لأشهر، أبدأ في مساءلة كل شيء حولي، أتناوب مع ذهني في قبول ورفض الواقع الخارجي، وفي قبول ورفض الواقع الداخلي، ثمَّ فجأة، في مكانٍ ما وفي لحظةٍ ما وكأنني أكتشف التحديث الجديد الذي أطبق خلاصاته الحتمية وكأنني ولدتُ وأنا أؤمنُ بالتحديث الجديد منذ طفولتي.
حدث ذلك لي عدَّة مرات في حياتي للحد الذي يجعلني أنتبه بحذر شديد إلى ما أكتبه الآن، أنتبه لكي لا يبدو يقينا جوهريا ولدت به، وتربيت عليه، أو عشت معه طوال عُمري، قناعاتي تغيرت كثيراً مع الوقت والزمن، والذي لم يتغير هو طريقتي في التغيير. أسمي هذه الحالة التغييرية مع أصدقائي باسم "تحديث ماريو" ولا أذكر أي تحديث وصلت إليه لكنني أطلقت عليه جزفا اسم "ماريو 14"

غيرتني تجربة الحياة، وكسرتني أيضا. هذه التي تسمى الحياة الطبيعية الهادئة لا تخلو من صدماتها المريرة، لا تخلو من الفقد الذي ينسفُ الشعور بدوام الحال نسفا. ودوام الحال هذا من أوهامنا البشرية المفضلة، وكل إنسان يتغيَّر بطريقة تختلف عن الآخر، أما أنا فالعجب نفسه يحدث لي كل عدة سنوات، لأكتشف خلال أسبوعين من العصر الروحي الشاق أنني أصبحت إنسانا آخر! ليس شخصا آخر تغير جذريا، ولكنه إنسان سيعيش بشكل مختلف عمَّا كان عليه قبل ربما أيام قليلة!
لا أعرف ماذا سيكون شعور إنسان لقيني قبل شهرٍ من الفتوح الجديدة التي حدثت لي مؤخرا! ولا أعرف كيف سيتعايش مع تغير بعض أفكاري تجاه الحياة، وتجاه الواقع العام، وتجاه الكوكب، وتجاه بعض القضايا الفكرية والثقافية، من المؤكد أنه سيستغرب! وقد تعلمت من تجربتي السابقة في الحياة أن أتجنب الحماسة التي تصيبني عندما أقوم بتصويب بعض السياقات، أو أحسم موقفي من بعض شؤون الحياة.
في السابق عندما ألاقي تحديثي الجديد كنت أنطلقُ متحمساً إلى ذهني المعدل، وأكتب بجنون وإفراط، ودائما ما أقع في الخطأ نفسه، أكتب وكأنني ولدتُ بلحظة المآل النهائي. هل تعرف شعور أن تتغير محطتك الفكرية إلى محطةٍ أخرى؟ كما حدث لي في بريطانيا ذاتَ يوم عندما بدأت أضيق ذرعاً باليسار العالمي الحديث، لأجد نفسي بعد أسبوعٍ من أسابيع العصر الذهني وقد صرتُ محافظاً! الشيء نفسه الذي حدثَ لي عندما تحولت من إنسان يخاف السفر إلى مهاجر، والشيء نفسه الذي حدث لي عندما تحولت من مهاجرٍ إلى شخص يتأقلم في الحياة في عُمان وكأنه لم يعش يوما من الأيام في جحيم من الرفض الذي كان منه، والذي كان عليه!
طال الزمان قليلاً على هذه الحالة الأخيرة، ستة أشهر تقريباً وأنا أشبه بالتائه الذي لم يعد يعرفُ ما الذي يعيشه في هذه الحياة. هل تعرف ذلك الشعور عندما تتحول إلى إنسانٍ آلي! هذا حقاً ما كنت أعيشه طوال الشهور الفائتة، والآن فقط أفهم لماذا كنت أعيش ما أعيشه، الآن فقط بعد أن وضعت النقاط على الحروف ووصلت إلى الخلاصات التي ستصبح قوانين حياتي لسنواتٍ قادمة ربما! ولست أدري، هل ستغير هذه القوانين صدمة جديدة، أو ستنحت ظروف الزمان بعضها مع الوقت! فعلا فعلا تشبيه تحديث الآيفون هو أقرب تشبيه إلى هذه المحطات التي تنفث منطقها في ذهني، وتتحول إلى قوانين جديدة أطيعها بكل امتثالٍ وتبرير!

ليس للأمر علاقة بالصواب والخطأ، وقطعاً ليس له علاقة بالذهاب إلى أفضل نسخةٍ من نفسي، ثمَّة سيئاتٍ صرت أقبلها كطبيعة لا يمكن الفكاك منها، وثمَّة سلوكيات صرت أخاف منها وهي قطعا حسنة وجيدة، أصوب السياق أمامك عزيزي القارئ لكي لا يذهب بالك بعيدا إلى التحديثات السابقة التي كانت لبعض الوقت رهن التأثير العام! ويا له من تأثير ساحق قادر على محق أدوات التفكير! جزيل الشكر لذهني العزيز الذي لم يكن يوما ما رهن استدعائي المباشر، لعل ذلك خير شديد لي، أن أنتظر هذا البوح الداخلي ليحدث في لحظاته المناسبة وغير المناسبة! هو يختار زمانه وأنا أختار ظروفه، وأنتظر كعادتي! وما معاوية من الأساس غير ذلك الذي قضى حياته وهو ينتظر ولا يعيش! هذه حياتي، وهذه مأساتي، وأقبلها كما هي بدون مقاومةٍ وإنكار.

عجيبة هي الحياة! وعجيبة هي النفس البشرية! وعجيبة هي الكتابة، وعجيبة هي الدهشة! وهذه الدهشة التي أعيش لأجلها! دهشة الاكتشاف المتأخر لكل اندفاع الحياة الذي كنت أعيشه. أعيش الآن مصيري الذي كنت أصنعه، وأعيش اختياراتي التي قمت بها، هذا الذي أعيشه الآن هو ما كنت أسميه "مستقبلي" ذات يوم! ذات خيارات بعيده، ولست ساخطا أو سعيدا، أو محتفلا، أو رافضا، أو أي صفة أخرى، أعيشه كجزء من العُمر، جزء من الأربعين بما فيها من هدوء، بمخاوفي التي أخشى أن تحدث، وبآمالي التي أتمنى أن تكون.
لا أعرفُ كيف يحدث ما يحدث لي، لكنني أعرف السبب، وأعرف أنَّ نداء الكتابة الغامض قد انتصر في النهاية، كم هو مضحكٌ أن أعود للكتابة دون علمي! هذه في حد ذاتها إحدى مقالب اللاوعي العزيز الذي يأخذك إلى أعمق ذواتك الداخلية وأنت لا تعرف! دهشة دائمة حقا! هذا أجمل ما هذه الحياة، هذه الدهشة، شيء يجعلك تصبر عليها دائما!
كنت أظنُّ أن حياتي السابقة حياة صعبة، هكذا خيّل لي! لم أكن أعرف أن الأسهل قد فات. أن تكون متمردا، عاصفا، خارج الصندوق! هذه حقا كانت حياةً سهلة للغاية، الصعب قد بدأ الآن، والتحدي الحقيقي للحياة قد بدأ الآن! وكتابة كل تلك التجربة يا إلهي! أي عقل موضوعي أستطيع الوصول إليه لأكتبها بإنصاف! هذه التي تسمى بالحياة الطبيعية أصعب بكثير من حياة المواجهات والحروب. ما أصعب أن تفهم تمردك متأخرا، وما أجمل ذلك! دهشة أخرى أليس كذلك! دهشة لا تتوقف ما دامت الكلمات ستضخُّ روحها في هذه النصوص، يا إلهي! اشتقت حقا لهذه الدهشة التي لا تتوقف! واشتقت لساعات الكتابة هذه! اشتقت لهذه الورقة البيضاء. بمعنى الكلمة، اشتقت إلى هذه الورقة البيضاء!

سأتمردُ على السياق بعض الشيء. أليست ضمن خلاصاتي الجديدة أنني سئمت شخصية النجم الرقمي! لن أنشر هذا النص في تويتر، سأنشره هُنا في مدونتي، وسأغيرُ معادلة الكتابة بعض الشيء، ومعادلة الحضور، وأشياء كثيرة ستتغير تلقائيا. سأكتبُ قدر طاقتي، وسأبقي على حضوري المهني الاضطراري كما يفعل أي إنسان يحترم إكراهات الحياة التي تجبره على السعي للقمة العيش. لا أعرف من الذي سيقع على هذه السطور، ومن سيقرؤها، لكنني أعرف أنها ستجد طريقها إلى قارئها الذي سيحبها، كيف؟ لا أعرف، متى؟ لا أعرف، إنها دهشة أخرى أتمنى أن أعيشها أيضا كما عشت دهشة الضوء الرقمي الذي يبدو أنني حقا قد سئمت منه تماماً في هذا التحديث الأخير لماريو الرابع عشر!

معاوية الرواحي
27/8/2024