إلى البدايات سر! ولا شيء آخر. لسببٍ ما أكتبُ بلا
توقُّف، ولسببٍ آخر أستمرُّ. تسير بي الحياة حيث لا أعرفُ. لسببٍ ما أواصلُ السير.
تغيرتُ كثيراً عبر هذه السنوات. قناعاتٌ نُحتت نحتاً، وأخرى تناثرت أجذاذا في
أرجاء المفازة الرقمية. مع ذلك، كما بدأتُ، معي لوحةُ مفاتيح، ولا أريد لهذه
الغواية نقطة نهاية. إلى البداية سِرْ.
اكتشافُ شيء كبيرٍ تغيَّر بكَ وأنت تكتب يشبه اللحظة
نفسها التي تسير فيها في مكانٍ مليء بالغيوم فتنتبه فجأةً إلى قناعةٍ جديدة
تكوَّنت لديك. تلك الأشياء التي تؤمن بها! أليس كذلك؟ والحكايةُ الطويلة مع
الكتابة، ووظائفها، وما تفعله، وما تغيره. أبسط الأمثلة هذه الورقة البيضاء
الخالية من الضغوط. لا بشرَ في هذه الورقة، ولا آخرَ ينتظرُ فرصةً لينتزع حقَّه
الرقمي فيكتبُ ما يشاء، يختلفُ، وينصف، ويظلم، أو ينشر شيئا عشوائيا، لا روبوت
هُنا لكي يمارس حيل الخوارزميات في الزمن الجديد، هُنا ورقة بيضاء في محرر النصوص
النبيل بما فيه الكفاية ليحافظ على ما كُتب فيه حتى وإن انطفأت الكهرباء فجأةً. شاشة
بيضاء، وكل الذي معي، لوحة مفاتيح!
ثمَّة شيء اختلفَ بين هذه المرَّة وتلك المرَّات
السابقة. كنت في السابق أعود إلى مدونتي مندفعا، ثائرا، غاضبا على بديهيات الزمان
الجديد، رافضا التأقلم مع ظروف الكتابة الجديدة. أقضي ساعاتٍ جيدة وأنا أكتبُ.
أنصت بمللٍ بالغٍ إلى تنظير الذين يكتبون ساعتين في الأسبوع عما يجب عليَّ فعله
ككاتب. أتفاعل مع مثقفٍ لديه مختلف أنواع الآراء عن الكتابة الصواب، والكتابة
الخطأ، أضطر للتعايش مع الذين يفكرون بشكل جمعي، والذين يغرقون في الفردانية حدَّ
ظنهم أنهم يعيشون في جزيرة نائية. مهرجانٌ من البشر، والقناعات. وأنا في قلب تلك
المعمعة أحاول أن أنحت مساحةً للكتابة! كانت صفقة عادلةً تلك التي بيني وبين التدوين،
منحته أجمل سنوات عُمري، ومنحني أجمل تجارب الحياة! الضريبة الوحيدة التي لا أريد
أن تصل بي الحماقة للتعايش معها هو أن أبقى دائما وأنا أكتب بجانب البشر!
ثمَّة حماقاتٌ كثيرة يمكنني فعلها، تعريف الكتابة ليست
واحدة منها. والإنصات إلى تعريف إنسان آخر عن الكتابة حماقةٌ أخرى، وهذه المرة
أعرف أنها حماقة من المستحيل أن أفعلها. أكتب لأنني أكتب، رغم أنفِ العُصابيين
الغارقين في قلقهم اللازوردي، رغم أنف سُميِّة مثقف في العشرين تعشعش النرجسية في
رأسه، ويظنُّ أنَّه يعرف كل شيء، لا يكتبُ لكنه لا يجد مانعا أن يحدد لمن يكتب ما
الذي يجب عليهم فعله! ذلك المهرجان الذي عليك أن تنجو منه لتعود إلى لوحة مفاتيحك
سالما. تلك التجربة شرطٌ لتفهم ما تيسر من العالم، وهذه النجاة شرطٌ لتكتب تجاربك في
قالبٍ ملائم لقارئ متعطشٍ سواء لقراءتك، أو للقراءة بشكلٍ عام.
عامُ 2006م بدأت الرحلة بلوحة مفاتيح، وعام 2024م أعود إلى
هذه البداية. حدث الكثير خلال هذه الفترة، عُمرٌ كاملٌ يحتاج إلى عُمر آخر ليُكتب.
ألعب القمار مع ظروف الجسد وصحته. أسأل نفسي بالعامية العُمانية:
"أواحي؟" أأنال الوقت الذي أطمح إليه؟ فأكتبُ؟ واجبي يُختصر الآن في
الاستمرار على الكتابة، والحفاظ على هذه المهارة في الانهمار السريع والوفير،
وانتظار اللحظة التي يعطيني فيها ذهني الضوء الأخضر ليقول لي أنني جاهز لكتابة
خامة الذاكرة الرئيسية، وخلاصات المنطق المُحكمة، أو على الأقل آخر التحديثات التي
ترسبت بعد تيارات الشكوك التي لا نهاية لها.
أرحل تدريجيا من ورطتي الرقمية. الزحام الذي في تلك المنصات
كان يفوق طاقتي منذ أن بدأت. كنت أحتاج إلى هذه المنصات طوال مساري السابق في
الحياة، ذلك الذي كان يهمني فيه بشدة أن أكون فاعلا في التأثير الاجتماعي المباشر
على جميع الأحداث. نظرت للأمر من باب التدريب على الكتابة، ولاحقا تمرين الذهن على
استيعاب تلك الخطابات الاجتماعية، خرجتُ بخلاصة جيدة من هذا العالم الذي لا نهاية
له، أشعر بالرضا على النتيجة النهائية، وهذه المرَّة لا قرارات حدية. لست بصدد
الانقطاع عن العالم الرقمي، ولا عن غواية صناعة المحتوى الرقمي، ولا عن إدارة
المنصات، ولا عن التفاعل مع الناس، الذي أعزله عن كل ذلك الزحام هو آلة الكتابة
هذه.
كلما كتبت تدوينةً أشعرُ برغبةٍ دوبامينية في نشر وصلتها
في منصة تويتر، تلك التي بها مائة وخمسون ألف حساب يُتابع، وعلى أقل تقدير عشرون
ألف إنسان يقرأ. أقاوم هذه الرغبة بشراسة وأقول في نفسي: هذه المدونة يبحث عنها من
يريد أن يصل لها. هذه مساحتي الخالصة لذهني، الخالية من ظلِّ وجودي في مجتمعي،
المُسلمة كليا للحظات الكتابة الطويلة، المستسلمة لوحي الذهن المحمي من تدخلاتي.
لا منطق اجتماعي هنا، لا منطق تأثير، لا علاقة لكل الذي يحدث في هذه المدونة بشيء
يحدث في الإطار الضيق السريع للأحداث المرحلية سريعة الرحيل.
أنسحب تدريجيا من حياةٍ عشتُ فيها خمس سنواتٍ تقريبا.
حياة النجم الرقمي كثير الحضور. اختبأ الكاتبُ وراء هذه الحياة واحتال عليها
ليحتلها، وفعلا! أكتشف أنَّه كان يحفر لعامين كي يستحوذَ على حياتي مجددا. ذلك
النداء الغامض العميق انتصرَ، هل تعرف لذة الاحتفال بهزيمتك أمام كائنك الكاتب؟ أجمل
الهزائم التي يمكنك أن تحتفل بها، أنَّك اخترت الكتابة رغم كل مغريات هذا الزمان الجديد
بكل نجوميته المهنية! نعم! النجومية مهنةٌ يمكنها أن تصنع لك رزقا لا بأس به، ما
دمت تعملُ، وتلتزم بها، وتشتغل على صناعة تلك المنصات التي ستصنع واقعك الرقمي
الموازي هي مهنة لا بأس بها. مهنة للأسف عدوةٌ للكتابة، وللوقت، ولراحة البال.
مهنة أؤديها بإتقان لا بأس به، لكنني لا أحبها مطلقاً. أنا أشد تعاسةً من أن أكونَ
هذا الشخص، هي لقمة العيش وما تفرضه عليك! وما أشد إكراهات الحياة مرارةً على
النفس الحرة الباحثة عن الصفاء بين الكلمات والحروف والسطور والجمل والفقرات
والفصول والكتب!
أعود مطمئنا هذه المرَّة، عازلاً الكلمة عن الضوء، نازلا
بكل حماستي على الورقة البيضاء، مؤمنا بكل لحظةٍ أسترقها من الزحام لأكتب. آمنت من
قبل أن النص الجيد يصنع طريقه بنفسه، وأعود إلى هذا اليقين مؤمنا بالأمل، أنَّ
القارئ على قيد الحياة، وأنَّ الكتابة على قيد الحياة، وأن كل الذين يضعون قوانين
الكتابة والقراءة هم حقا في حالة ضياع حقيقي، فالكاتب الذي يحب أن يكتب، يكتب! والقارئ
الذي يحب أن يقرأ، يقرأ، بكل هذه البساطة الفادحة، السطور ستأخذ ترتيبها وشكلها
المعتاد، والفقرات ستطول، ومهمتي أن أصنع الظروف التي تجعل لحظات الكتابة هذه
مسالمةً، وصافيةً، وخالية من كل التعقيدات الأخرى التي صنعتها خياراتي في هذه الحياة.
عدت إلى هجرتي الأولى. أنا هُنا لأمكثَ، لست هاربا من شيء، لست لائذا بشيء، جئت
لأكتب ومعي تجربةٌ في هذه الحياة، ومعي لوحة مفاتيح!
معاوية الرواحي
27/8/2024