تعود بي الذاكرة إلى تاريخ محاولاتي للانقطاع عن
التدخين، تلك التي نجحت على الأقل لمدة تجاوزت الشهر. وكل مرَّة أكتشف شيئا جديدا
عن هذا الإدمان العميق، وارتباطه الوثيق بجهازي العصبي، وبعاداتي، وبسلوكيات كثيرة.
أكاد أجزم بشكل قطعي أن النيكوتين أعمق إدمانا من أي شيء
آخر في هذا الكوكب، أشدُّ حتى من القنّب ومشتقاته. عاديةُ النيكوتين شيء يثير
الاستغراب حقاً، فهو موجود في كل مكان، على هيئة سجائر، شيشة، سجائر إلكترونية!
عاديٌّ للغاية وموجود في كل مكان، ولا تعلم أي صفقة مع الجحيم قد دخلتها إن كنت قد
وصلت إلى الحد الذي يجعلك تبدأ صباحك برشفة سيجارة!
إنَّه العام الرابع لي بدون سجائر! الآن أنتبه لهذا
الإنجاز الصغير! ولكنه ليس العام الرابع بدون تدخين! البدائل المتاحة،
الإلكترونية، وتلك الطبية غير المتوفرة في عمان للأسف، ليس لأنها ممنوعة ولكن
لأنَّها بلا سوق حقيقي!
لا أعرف هل من نحت مصطلح الإدمان العميق من قبل، أو كان
قد مرَّ على بطانة الذاكرة وأستعيده الآن. النيكوتين فعلا يستحق هذه
التسمية/الوصمة. لأنه إدمان عميق يعود لك حتى بعد شهور متتالية من الانقطاع عن
التدخين!
نقطة العودة الحرجة التي اعتدت عليها لا تكون عادة في
الأسابيع الأولى، أو الأيام الأولى، نقطة العودة الحرجة تكون بعد شهور. ثمة شيء
يتغير في العقلية التي قادت للانقطاع عن التبغ المحمول عن طريق الرئة، شيء يجعل
الشيشة فجأة "شيئا عاديا" ويجعل مجموعة أنفاس من السيجارة الإلكترونية
تصرفا مقبولا، وأيضا "من باب المرة الواحدة" ودائما الخدعة نفسها!
تتوق النفس إلى حالةٍ من النشاطِ الذهني الجديد، ذلك
التوقد الذي يمنحه النيكوتين للجسد النظيف منه، ثمة سبب يجعله إدمانيا، وثمة عادات
مدتها سنوات تجعله إدمانا عميقاً.
أشياء كثيرة كانت في مرتبة العقد النفسية في حياتي
حولتها إلى نجاح، وتبقى عادة التدخين فشلي الأعظم في هذه الحياة! ولن أعتبره نجاحا
إن انقطعت عن التدخين فحسب، النجاح أن أكمل سنة كاملةً دون نكسةٍ واحدة، دون رشفة
من سيجارة إلكترونية أو غير إلكترونية، دون بدائل التبغ الطبية، هُنا سأعلن أنني
تجاوزت أشد فشلٍ لي في هذه الحياة، الفشل الذي أتوق إلى تحويله إلى نجاح!
عندما يسألني الأصدقاء: ولكنك نجحت في الانقطاع من قبل،
لماذا تستدعي كل هذا الهم على نفسك؟
نعم، نجحت في الانقطاع لعدة شهور. خبرتي هي الانقطاع
لعدة شهور، لكنني لم أكون خبرة كافية لأكمل هذا الانقطاع. أعيش أياما قلقة للغاية،
وتتأثر عاداتي كلها، تتأثر الكتابة، يتأثر التفكير، ويتراوح بين القلق الاندفاعي
والجمود العدمي، وكل هذا يحدث لك وأنت في منتصف رحلتك في هذه الحياة، وفي أشد
حالاتك بحثا عن النجاح والتحقق! الوقت الذي يصبح فيه النيكوتين حياةً مضافةً، وليس
أكثر من مجرد عادة اعتدت عليها.
لا أعرفُ متى بالضبط كانت تلك الروح العدمية تهجم
بضراوة. بدأت أكون فهما مبدئيا لموضوع الإدمان العميق. وكأنها حزمة من
[اللاتجاوزات] الداخلية في النفس. الترسبُ المتراكم لتقبل فكرة الموت، والسرطان،
والفشل الرئوي. وكلها تأتي بعد تجاوز الإدمان السطحي المبدئي، ذلك المتعلق بالمادة
مباشرة، وبالتعايش مع الحياة بدونها.
تفشل المحاولة عادةً بعد عدة شهور عندما أنتقلُ من بديل
النيكوتين بدرجة [4 ميللجرام] إلى بديل النيكوتين [1 ميللجرام] آخر ثلاث محاولات
لي هُناك كانت الهجمة العدمية، وهجمة اللامبالاة، والتفكير في الموت، وتقبل المرض،
بل وأشد من ذلك، عودة إلى تفكير عشريني أحمق قديم كنت أظنُّ فيه أنني لن أواصل
الحياة إن بدأت عوامل التقدم في السن بالظهور عليّ! سن العشرين وكل ما به من
حماقات لا حصر لها! وقناعات مضحكة أحيانا! ولا أقول أن هذا ينطبق على الجميع، لكنه
بشكل ما أو بآخر ينطبق على المراحل البشرية كلها!
بدايات السكري، آلام الظهر، ارتفاعات طفيفة في الأنزيمات
هنا، ارتفاع طفيف في الكوليسترول هناك، وأنا أقاوم. ألعب تنس طاولة، أحاول
الالتزام بالصالة الرياضية، وأحاول الالتزام بالأكل الصحي، أقلل من وزني 18 كيلو
غرام، وستة تذهب وتجيء، أين كان ذلك الشاب الذي يظن أن الحياة فقط هي الشباب
المندفع؟ والمجازفة، والمغامرة، والتهور بلا توقف؟ ذهب مع الأيَّام وهي تطوي الوقت
طيَّا.
اليوم الأوَّل دائما تعيس، وبسببه يتم تأجيل المحاولات
عادةً. وثمة معادلتان متضادتان كلاهما له شحوب أخير:
- تترك التدخين لأنك تريد صحة أفضل: تمر الأيام، وتتركه، وتكتشف أن حياة
الالتزام بالرياضة، والمعايير المثالية صعبة للغاية، تجتهد لبعض الوقت ثم تأخذ من
ذلك السلوك حده الأدنى الصحي، تمر الشهور،
تشعر أن قليلا من [التخبيص] لن يضر شيئا، تفعّل الإدمان العميق بجلسة شيشة أو
سيجارة أو برشفة من التبغ المحلي، وأهلا وسهلا بك مجددا في كوكب الإدمان على
النيكوتين.
- تتركه لأنك خائف من الأمراض الجسيمة: تمر الشهور، ويلعب بك عقلك ويقول، لقد
حققت استشفاء لا بأس به، من الأساس دخنت سنوات طويلة ولم يحدث لي شيء جسيم، من
المؤكد أنني نلت استشفاء لا بأس به يسمح لي على الأقل بسيجارة، ليلة واحدة وأنا
أكتب لأعدل مزاجي، جلسة شيشة مع الأصدقاء لن تضر! والنهاية، يعود الإدمان العميق.
الإدمان العميق، مرتبط بشكل هائلٍ بالكتابة، والمذاكرة،
نشوةٌ سريعة إلى جهازك العصبي تصل خلال ثوانٍ، يقتلعك من النوم إلى اليقظة خلال
دقائق، يصنع لك حياةً مضافة من النشاط الذهني، وليس من السهل أبدا أن تتغلب عليه،
ليس بدون مساعدة محترفة، وربما ليس بدون مجموعة دعم!
ولكن من هذا الذي سيتعب نفسه كل هذا التعب من أجل ما
يسميه البعض "مجرد تدخين" ..
ولا سيما هؤلاء الذين يكابرون ويخترعون حكايات بطولية
للطريقة التي تركوا بها التدخين دفعة واحدة ولم يتأثروا مطلقاً! وكأن جهازهم
العصبي يختلف عن أجهزة غيرهم، لم تتأثر؟ أم كتمت كل ما كنت تشعر به أيام الانسحاب
فقط لتباهي بهذه البطولة؟ في كل الأحوال كنت صادقا أو مكابرا، هنيئا لك حياة بدون
دمار رئوي!
صرت أحفظ الروتين جيدا. تقليل النقاشات غير الضرورية،
التعامل مع هجمات الإدمان العميق العدمية بمنطقية، تفتيتها بلغة القرار، تخفيف لغة
الإرادة الجبارة ونزعة البطولة فهذه أيضا مراوغة، وتتحول بعد أسابيع إلى اعتياد.
توازنات انسحابية لن يفهمها سوى الذي مرَّ بإدمان عميق حقيقي، القهوة مثلاً، هل
تتخيل حياة إنسان أصابته القرحة وهو يحاول أن يكمل الحياة بدون كافين؟ النيكوتين
شبيه بذلك، موضوع سيكولوجي بامتياز، ونظرا لارتباطه بالمرض والموت فهو فلسفي بشكل
ما أو بآخر، سلوكي عندما يتعلق الأمر بالعادات، واجتماعي عندما يتعلق الأمر
بقرارات الحياة والإنتاجية، ومهني عندما يتعلق بالحالة الإبداعية بالتدخين وبدونه،
نعم إنه إدمان عميق، ويجب التعامل معه على هذا الأساس.
يبدو لي أنني وصلت للفتح المرجو الذي كنت أريد الوصول
له! نعم، لغة الإرادة الصماء تتحول لاحقا لثغرة أمام الهجمات العدمية التي تجعل
الأمر ضمن خانة اللامبالاة، ولغة الخوف والذعر تتحول إلى طمأنينة تؤتى من مكمنها.
الهجمات العدمية ستحدث، عاجلا أم آجلا ويجب أن أنحت منطقا يفتتها، لا أن أنحت موجة
تردمها أو عاصفة رملية تطمرها. هُنا الشيء الجديد في هذه المحاولة! والتي أتمنى أن
تكون لنهايتها ناجحةً وذات معانٍ جديدة في هذه الحياة!
معاوية الرواحي
28/8/2024