"!!!القسوة هي الحل"
هذا هو الشعار الذي يرفعه البعض عندما تكتشف عائلة أنَّ أمامها فرد من أفرادها يعاني من مرضٍ نفسي! والموَّال نفسه يتكرر في عشرات العوائل، ويعود بالنتيجة نفسها. إمَّا إيصال المريض لحالة من العزلة التامة، والاكتئاب، ويكون جالس في البيت ويفقد مهاراته الاجتماعية، ويكتئب، وينعزل، ويفقد ثقته بنفسه، وأحلامه، ويفقد قدرته على تكوين طموح للحياة وللعمل وللاندماج مع الناس والعائلة ولتكوين صداقات صحية ونافعة تحميه بدلا من أن تستغله، والعائلة هُنا "راضية" بالذي يحدث، لماذا؟ ما دام لا يسبب مشاكل، ولا يصرخ في منتصف الشارع، ولا "يفضحنا" فلا بأس، دعه في غرفته لسنوات وسنوات، أو لشهور، المهم هو مصلحة العائلة، والمهم هو الحفاظ على الصورة الاجتماعية. هل ألوم العائلة التي تفعل ذلك؟ لست بصدد إدانة من يفعل ذلك بجهلٍ منه، ويظن أن أقصى أمل من المريض النفسي هو أن يبقى سجينا في غرفة فاقد الاتصال بالعالم! ما دام يفعل ذلك عن جهل، الذي يفعل ذلك عن علم وقصد هو المجرم الحقيقي في حق أبنائه، هذا ونحن لم نتحدث بعد عن الذي يقفز بفلذة كبده لباصر وراء باصر بحثا عن العفريت الذي يسبب اختلالا في جهازهم العصبي!
المريض النفسي الذي في عائلتك يلزمك أن تبدأ أولا بتوعية نفسك. كيف أشرحها لك؟ أول شخص يجب أن يقابل طبيبا نفسيا، أو أخصائيا نفسيا هو أنت المسؤول عن هذا المريض. افعل ذلك من أجل نفسك، افعل ذلك من أجل استبعاد أي عوامل وراثية في المرض نفسه، افعل ذلك لأنك عانيت، وتعبت، ودفعت ثمن مرض ابنك أو ابنتك أو أخيك أو زوجتك أو دفعتِ ثمن مرض زوجك، الخطوة الأولى هو أنت أن تكون أنت بخير.
أولا دعني أشرح الفرق لك بين الطبيب النفسي والأخصائي النفسي، الطبيب النفسي مهمته العلاج بالأدوية، واتخاذ قرارات قانونية مهمة مثل التنويم، هنا تقع مسؤولية الطبيب، عندما يكون لديك مريض يمكن أن يتعرض للخطر، أو للانتحار، أو لجرعة زائدة، هُنا أنت في حلٍّ من التصرف ولتدع الأمر في يد الأطباء، ولكن ماذا بعد التشخيص؟ وماذا بعد الاستقرار المبدئي؟ سيكون لديك مريض نفسي يعاني من صدمات متتالية! فهل الحل بعد أن يبدأ بالاستقرار أن تجعله يعاني الأمرين بسبب قلقك؟ ولأنه "تعبك واجد" ومباشرة تعامله كأنَّه سبب عذابك في الدنيا! يا سلام عليك!
كيف يستقر هذا الذي يتعايش من الأساس مع مرض نفسي هو نفسه لا يفهم كيف يتعايش معه! الوصمة الاجتماعية تقول له مجنون، وفاصل، والوصمة الذاتية تقول له أنَّه شخص [به شيء غلط] .. وتأتي أنت قلقا، ومتعبا، وخائفا من الناس وكلامهم فتتحول إلى شخص عصبي ترمي عليه ليل نهار بالكلام السام وتلومه دائما على مشكلته!
لماذا عليك أن تقابل أخصائيا نفسيا، لكي تعرف متى تشد، ومتى ترخي، لأن الأخصائي النفسي هو الذي يعطيك الخطوط الواضحة لعلاقتك بفرد من عائلتك مريض نفسيا، كان زوجا، أو كانت زوجة، أو كان ابنا، أو كانت ابنة، أو كانت أختا توفى أبوها وكنت ولي أمرها كأخيها، أو كنت ابنةً كبيرة لأيتام ظهر على الابن الأكبر المراهق بعض الأعراض لمرض نفسي.
قابل طبيبا واشرح له وضعك، وقابل أخصائيا واستمع منه، جلسة جلستين ثلاث. الأخصائي النفسي مهمته مختلفة عن الطبيب، مهمته أن يسمعك بشكل دوري، وينبهك لوجود شيء مقلق عليك أو على فرد عائلتك. العلاج الدوائي وحده ليس كافيا في بعض الحالات، وجود أخصائي نفسي يعلم ما الذي يقوله، يعمل وفق قانون ويقدم رأيا علميا دقيقيا، ويشرح لك الحقوق المتعلقة بالمريض، ويحميك من أن تتخذ القرار الخطأ وفي الوقت نفسه يحميك من أن تحمل نفسك فوق طاقتها، هذا يحتاج إلى لقاء تفصيلي دوري مع الأخصائي النفسي.
حتى هذه اللحظة كثيرون لا يعرفون الفرق بين الطبيب النفسي وبين الأخصائي النفسي، ولذلك يدور عالم الصحة النفسية في الوصمة الشائعة، والتصورات النمطية، ونظام [القسوة هي الحل].
تقسو؟؟ المريض الذي اليوم تعاني منه مريضا يتقلب بين النوبات أو المخدرات، غدا تعاني منه سجينا، ربما تعاني منه بعد غد تاجرا، ربما تعاني منه بعد غدين عضوا في عصابة، لأنك ظننت أن الحل هو التهجير، وإبعاده، وتركه يتدهور، وحرمانه من حقوقه! أو لأنك ظننت أن الباصر هو الحل؟ أو ظننت أن ابتكار قصة عفريت وجني وغيرها من الخرافات ستجعله اجتماعيا [مقبول] لكن الأدوية، والعلاج بالكلام مع الأخصائي النفسي هذه حلول غير مطروحة لديك! المرض النفسي مشكلة ممكنة العلاج، وبعض الأمراض علاجها حبتي دواء في اليوم، وربما زيارة شهرية للأخصائي النفسي، لكن من الذي يعاني من الهلع!
تعاني أنت من الهلع، ومن قلق الخوف من المجهول، ومن ذلك المجهول شاسع المدى [الجنون/ المرض] يا إلهي! ابني أو ابنتي أو أخي أو أختي تنطبق عليهم وصمة [مجنون/ مريض نفسي] وتصنع لنفسك مشكلة طويلة المدى فقط لأنَّ مجتمعا ما قصّر في التوعية بواقع العلاج النفسي وبحقيقته، أو لأنَّ مؤسسات طبية نفسية كثيرة شغلها الحقيقي [تحلب فلوس الناس] بسبب عدم علمهم، وبسبب رغبتهم في الحلول السريعة، أو بسبب تنصل ذوي المريض نفسيا من دورهم في استقراره وفي عودته لآمال تمكنه من الالتحاق بالحياة الطبيعية.
المدمن، من مصحة لمصحة، ثم يعود للحياة الطبيعية، ماذا يجد؟ يجد تقريعا، وشكوكا، ويسمع كلاما مثل السم، ويعاقب على ما فعله، حتى يتحقق العامل الخفي، والرقم الذي يحفظه في رأسه [للتاجر] الذي يعيده إلى الإدمان، وتحدث النكسة، وتحدث الكارثة، ثم مجددا يسافر أو يذهب للمسرة.
أعلم أن الأمر صعب للغاية، وليس سهلا، لكن هناك سؤال آخر عن السواء النفسي ومتى يصبح الإنسان "بخير" ومتى نقول أنَّه تجاوز المآزق النفسي؟ عندما يكون ارتباطا بالحياة، وهذا يأخذ سنوات في بعض الحالات، عندما يكون دفاعات ليحمي نفسه من النكسات، عندما يأخذ أدويته، وحتى مع تحقق هذه الدفاعات ثمة نكسات قد تحدث، وفاة قريب، أو مدمن يحاول جره لسابق عهده، أو لحظة غباء يتعاطى فيها، ليس المهم هو التأكد من وجود [صفر نكسة] المهم هو التأكد أن أي نكسة لا تطول، وأنها ستجد علاجا سريعا، وأن هناك خط عودة.
القسوة ليست حلا، والمقاربة طويلة المدى تؤتي أكلها. لكن لو كنت تبحث عن الحلول السريعة أو كنت تريد التنصل من ذلك المريض فقط لأنك تريد الحفاظ على حياتك بعيدا عن كلام الناس، أو لأنَّك غير مستعد تتعب نفسك أو تدفع ضريبة الوقوف معه، أو لأنك من الأساس لا تعلم كيف تتصرف، أو لأنك متعب أو مرهق، وأنت بحاجة لمساعدة وبحاجة لمن يسمعك ويفهم همومك. قبل أن تعين مريضا من عائلتك أنت أوَّل من عليه أن يكون بخير، قابل طبيبا، وقابل أخصائيا نفسيا وجرب هذا العالم، وأرح نفسك من التكهن، ومن الشعور أنك مقصر في شيء لم تقصر فيه، ومن اتخاذ قرارات ليس معك العلم النفسي الكافي لتتخذها، قابل الأخصائي، وقابل الطبيب، وافهم منهما صوابية القرارات، ستشعر بالراحة، والراحة هذه ستعطيك صبرا، وستجعلك عونا أفضل لفرد عائلتك الذي يعاني أيضا من مرض نفسي.
هذا الذي تراه اليوم مريضا نفسيا، يعاني من النوبات، أو الغضب، أو يصرخ في الشارع، قد يستقر، بالأدوية أو بالعلاج بالجلسات مع الأخصائيين النفسيين، ذلك الذي كان يوما ما نزيل المصحات النفسية تعالج وأصبح بخير، واستقر لسنوات وسنوات، ولعله انتكس مرة أو مرتين لكنها عاد ووقف على قدميه، لا تقطع الأمل، لا تحكم حكم إعدام عليه، لا تقرر نيابة عنه أنه لن يعمل، ولن يدرس، ولن يكون عضوا نافعا في المجتمع، وإن كان هذا القرار لا مهرب منه فليكن قرار لجنة قانونية وطبية، ليس قرارا تتخذه فقط لأن ابنك ذات يوم خرج يصرخ في المسجد، أو أصابته نوبة وبدأ يرى خيالات في الجدران، عالم العلاج النفسي الطبي، والعلاج بالجلسات والإرشاد والنقاش له سبب في هذا العالم، سبب قانوني، سبب يعفيك من أن تتخذ بعض القرارات التي فوق طاقتك، لذلك، لا تخجل من أن تنال المساعدة النفسية التي تجعلك عونا لمواجهة هذا الكابوس الذي تظنه مرعبا.
هذا المريض نفسيا الذي يبدو لك شخصا ميؤوسا منه قد يدهشك أنَّه يحتاج إلى حبتي دواء يوميا، وإلى استقرار مدته ستة أشهر قبل أن يعود للحياة الطبيعية، مستقرا، هادئا، ربما يدرس، ربما يعمل، ربما تكون له تجارة، ربما يتزوج ويعيش بخير وحياةً طبيعية. هذا الذي تظن أنك تعيش كارثة الحياة فيه أو بسببه قد يكون حل مشكلته أسهل مما تظن، لكن عليك أن تجد العلاج المناسب مع الشخص المناسب، مع الطبيب المناسب ومع الأخصائي النفسي المناسب.
اذهب للطبيب، واذهب لأخصائي نفسي، وتعلم عن هذا العالم بعض الأساسيات قد تكون تعيش قلقا هائلا، ورعبا لا داعي له، قد ترتاح عندما تعرف المرض وعلاجه، قد ترتاح عندما يقول لك إنسان مختص بكامل ثقته: هذه الحالة ليست مستعصية!
القسوة ليست حلا على المريض، وليست حلا لتمارسها على نفسك، فتحرم نفسك من الإرشاد النفسي، وتحرم نفسك من أن تلتقي بأحد لتحكي له مشاعرك تجاه فرد عائلتك المريض، القسوة على نفسك ليست حلا، أنت الذي يجب عليك أن تكون بخير، فلا تنصت لكل ما يقوله المجتمع، واذهب للطبيب، واذهب للأخصائي، ودع عنك البحث عن الحلول السريعة أو العصا السحرية، هذا ابتلاء، فلا تجعله يسقط على رأسك مرتين فقط لأنك تظن أن القسوة على مريض نفسي، أو القسوة على نفسك هي الحل!
القسوة ليست حلا! ليس في هذا السياق!