أستيقظ لأحتفل؛ إنها الخامسة والنصف صباحا! كيف لدماغٍ مزقه
الاكتئاب لأسبوعين ألا يحتفل بهذه المُناسبة؟ سأحتفلُ لأنني لا أجد في غير هذه
المناسبة الصغيرة ما يستحق الاحتفال. اعتدت على هذه اللعنة الموجيَّة التي سيطرت على
حياتي حتى أصبحتُ لا أتخيل الحياة بدونها، كيف هي حياة الآخرين، هؤلاء الذين ليسوا
من ثنائيي القطب؟ هل يستيقظون كل يوم وهم غير مكتئبين، غير منتشين؟ حالاتهم
الموجية محل انتباهٍ حاد من قبلهم؟ هل يتوترون عندما يزورهم الاكتئاب العاديَّ،
ذلك الذي يستمر لمدة يومين يحزنون بسببها كثيرا، ربما يسبب لهم الاكتئاب اكتئابا
آخر، فيحزنون لأنهم أصيبوا بالحزن؟ لا أعرف، وربما لا أريد أن أعرف، الانتشاء
الوجداني الذي يخيّم على خلايا دماغي الآن يمنعني من الفضول.
أمرُّ على طقوس الصباح كأنني قطار كسول، أراجع تطبيقات
الرسائل، أجيب على قائمةٍ طويلةٍ من الاستفسارات. لم أظن يوما ما أنني سأعمل في
مجال الإعلانات! ولكن ها أنا أفعل ذلك، لا أقصد الإعلانات، بشكل عامٍ أعمل، في
وظيفةٍ ما خارج محيطات السياسة المتلاطمة بأمواج التسونامي اللحظية. أقضي ثواني
غير ثمينة في التساؤل قبل أن أعود إلى هؤلاء الذين اختاروني لأصمم لهم إعلانا،
أجتهد في إيجاد فكرة، أنفذها، أسجل التعليق الصوتي ثم أرسل ذلك الخبز غير الجاهز
لخبازي الفيديو، تصلُ النتيجة النهائية وأقيّم عملي بروحٍ راضية، إنني على قيد
الحياة ما دمت أعمل، وما دمت أعمل فأنا على قيد الحياة، من توقَّع أن يقول صعلوك
محترف هذه الجُملة يوما ما.
أدور في أركانِ المنزل، أبحثُ عمَّا يمكنني أن أكمله
بفكرةٍ جديدة. أقارنُ بين هذا المنزل وذلك الذي كنت أسكنه في شارع [هيلتون] في
برمنجهام في المملكة المتحدة. أتأكدُ بصورة لا إرادية من درجة الحرارة! هل هي تحت
الصفر؟ أعود لهدوء الدفء وأطمئن أن النهار صحو، لا مطرَ يغرسُ دبابيسه الباردة في
وجهي، إنها عُمان، أنا في مسقط، في بلادي ووطني، وما زلت أكتب! لست سجينا بسبب
تغريدة، ولم أعد أكرهُ حقيقة حياتي المغيَّبة في نشاط سياسيِّ لم أكن له يوما ما
سوى شعور بالقنوط وبلا جدوى فعل كل ذلك.
إنه لَشعور غريب أن أعيش في عُمان لأنني أريد ذلك. ولدتُ
في عمان وعشت فيها 33 سنة من عُمري، هاجرت لثلاث سنوات قبل أن أعود مقتنعا أنني
أنتمي لبلادي! كم هو غريب وصف حياتِك بعد العودة من الهجرة! إنني في مسقط! هل حقا
هذا يحدث أم أنا في حلم غريب من تلك الأحلام التي كانت تزورني وأنا على دراجتي
أطوف برمنجهام بحثا عن مكانٍ جديد قد ينال اهتمامي لبعض الوقت. ليس للشحوب مكان في
عُمان، أما هذا الدفء فقد أصبح كنزاً من الكنوز، الجو الصحو، وأيام السنة المفتوحة
على مصراعيها للترحالِ أو للخروج.
تعود لي ذكرى التصقت بذاكرتي حتى ظننت أنها ضُربت على
جدران جمجمتي بمسمار مضاد للصدأ. كنت قد خرجت من السجن قريباً، مررت على مقهى من
مقاهي الكرك المتناثرة في فؤاد العاصمة مسقط. طلبتُ كوبين من الشاي وطفقت أنتظر.
في الطاولة المقابلة جلس مجموعة من الشبَّان وبدا على ملامحهم الانهماك في النقاش.
سألتُ نفسي حينها: هل حياتهم جميلة؟ هل هناك مؤسسات رقابية، وأجهزة مختصة تتابعهم؟
هل لديهم ملفات دفينة في أروقة القانون، والمحاكم؟ هل يا تُرى هُناك موظف رسمي
يهيئ نفسه للقاء أحدهم، ليحذره، ربما ليهدده أو ما هو أسوأ؛ ليكيد له الضرر والخطر؟
يصلُ العامل الوافدُ حاملا طلبي، أدفعُ له ثمن الشاي وأرحلُ. مر الحدث وبقيت
الذكرى وعلقت لسنوات في معارك السياسة التي لا أفهم حتى هذه اللحظة لماذا وثقت بكل
من فتح لي بابها!
إنها العاشرة صباحا، مضت خمس ساعات من يوم عادي. أمامي
نصفُ يوم لأنهي بعض ما عليَّ فعله. أصبحت كائنا متزوجا، لم أعد صعلوكا يبحث عن
أقرب رصيف يحتويه، لستُ مهاجرا وأعيش في بلادي، لم أعد مدونا سياسيا ولا أخبار
السياسة صارت تشكِّل لي أي معنى عميق في وجداني، أتربص بما حولي وأعيش حذرا، أحاول
استعادةَ الشعور بالثقة والطمأنينة، أقضي وقتا لا بأس به في هذا التربص وما أن
أعود من كوكبِ الماضي أجد اللحظة أمامي، أعيشها متجردا من الانتماء لها، أفكر
كثيرا، أخطط قليلا، وأنفذ ما تيسر من هذه الخطط بحثاً عن المفقود من الزمن الذي لم
أعشه، لا أحد يعيش حياته كما تمناها ولكن يمكنك أن تغير أمنياتك، وأن تتعايش، وأن
تطمئن إلى أنك فعلت كل ما بوسعك للدفاعِ عن نفسك، وعن حقك في الحياة.
تَعيش عُمان أياماً أولى من التعافي، لا أقصد من داء
كورونا الذي خيَّم على الحياة قاطعا عنها وتيرتها الاعتيادية، أقصد على صعيد التعبير
عن الرأي. يُدهشني عندما أجد كاتبا أو مغردا وقد أصبح يضرب بالذخيرة اللغوية
الحية، يلوم الأخطاء وينقد التنفيذ والأداء الحكومي، وكأنني في أيام عُمان
الجَميلة، أيام علي الزويدي في سبلة عمان، وأيام التدوين الذي كان يشق طريقه
المبدئي كمنبر إلكتروني بديل لكل تلك المنابر المتكلسة والمقيدة بالمشرفين
والرقباء ورؤساء التحرير، لم تعد الكتابة لعبة شطرنج، الساحة أصبحت للجميع، وهذا
هو الوضع الطبيعي. يباغتني الحنين، أعود لأيام الأحلام التي عيشتها في سنوات
العشرين، أستيقظ منها لأجد نفسي في السادسة والثلاثين، في زمنٍ غريب، ترامب يحكم
العالم، كورونا يحكم ترامب، والدنيا تسير هكذا، أو هكذا، في كل الأحوال لا يهرب المرء
من حياةٍ ما، لكل منَّا حياة ما أجدر بنا حفظها، أما عن القدر وما يخبئه، والخوف
وما يتنبأ به، فهذه حكاية أخرى داخل حواف الجمجمة، تحدث في بعُد آخر، وفي كوكبٍ
ذهني بعيد كل البعد عن هذا الكون الذي علمنا النظر إلى غموضه بانبهار وحذر.
معاوية الرواحي
مسقط
أكتوبر 2020