مشكلة
الاهتمام بالسياسة إنها تجعلك مع الوقت إنسان متقلب. تتشنج بالمخاوف، أو الهجومية
وينشأ لديك مع الوقت حس جمعي يمحق فرديتك ويجعلك تفعل ما يصدمك من نفسك. نعم،
السياسة تتحكم بمفاصل الحياة لكن هذا لا يمنع إنه حزب الكنبة عايش حياته ويتعامل
مع المعطيات النهائية بلامبالاة وراحة بال.
لا
أتهم ولن أتهم المهتم بالسياسة بإنه يضيع وقته. غصت حتى غرقت في بحر الكتابة
السياسة لمدة تقارب نصف عُمري، وجزاك الله خير أيها السلطان هيثم بن طارق، العفو
الذي نلته من لدنك جعلني أشعر بقيمة الحياة خارج طوفان التحفظات، والمعارك التي لا
نهاية لها وليت عمان استفادت منها شيئا!
المهتم
بالسياسة والفاعل فيها يتعلم الكثير ، عن نفسه، وعن الناس، وعن الأيام والدول،
الدفاع عن الوطن شرف، والكتابة عن شؤون الوطن نبل، والتصدي للظلم نبل وشجاعة. هذه
قيم لا أنكرها على من يمارسها، الحزن الذي أشعر به أنني لا أناسب كل هذا، مطلقا،
أجيد الكتابة لا الاتزان والموضوعية
الكتابة
في الشؤون العامَّة تحتاج إلى عقل نظيف بكل معاني الكلمة، وأهم من ذلك تحتاج إلى
قلب نظيف، العقل المريض، أو القلب الملوث بالكراهية مهما كتب بمنطقية، سيقوده قلمه
في النهاية إلى نهايات تعيسة جدا. سواء كان موالي أو معارض. الكتابة الوطنية عطاء
بغض النظر عن الجانب الذي تختاره.
الكتابة
كموالي لوطنك أو للحكومة لا تعني التطبيل بالضرورة، فن السياسة يعني أن مصلحة
الوطن العُليا هي التي تنطلق منها في كل حرف تكتبه، وهذا يعني إنكار العاطفة في
كثير من الأشياء، العقل المحض صفة مُلازمة بشكل لصيق لمن ينصر وطنه، والعاطفة في
ذلك أحيانا خطأ، وربما مصيبة.
كذلك
على الجانب المقابل، اصطفافك مع الشعب، دفاعك عن حقوقه، كتابتك لمطالبه المستحقة،
هُنا تدخل العاطفة بشحنة عالية، وهذا لا ينافي المنطق بالضرورة لكنه أيضا يحمل
الكاتب أعباء مخيفة من تجنب الحقائق الصادمة التي لا مفر من قولها. إنه انتصار
نبيل لوحدة المجموع، ظالما أو مظلوما.
الكتابة
الوطنية تحتاج إلى قدر معقول من النرجسية، كنت مواليا أو من الذين يقولون: لا.
وعقل
الفرد يحتمل قضايا جمعية، وكبيرة، ولكن إلى أي مدى. من تجربتي الشخصية المريرة
أخذت سنوات لأكتشف أنني لا أصلح لا مواليا، ولا معارضا، ولا مطبلا، ولا ناقدا، ولا
مع ولا ضد. أصلح لحزب الكنبة فقط.
كان
يوما صعباً على نفسي عندما وقفت أمامها بكل شجاعة واعترفت لنفسي أن خطابي السياسي
ليس باسم الشعب، ولا باسم الحكومة، أقصى ما كان يجب علي فعله هو الكتابة عن قضيتي
الفردية، وألا أتكلم باسم الشعب، أو باسم الحكومة، ومنها وجدت أول خيط للمنطق بعد
سنوات متتالية من العويل الناقم اليائس.
وأخيرا
بعد سنوات وسنوات، لم أعد أزعل عندما يصف شخص تجربتي السياسية بأنها بلهاء، حماسة
فياضة، وتناقضات، واضطراب مستمر، ما الذي يجعل شخص مضطرب يحمل هذا العبء على عقله
المضطرب؟
إنها
حياة بائسة عندما تخسر كل شيء ولا يبقى لك غير كتابتك السياسية التي جعلتك تخسر كل
شيء غيرها!
وعُمان
معضلة عاطفية كبيرة. بها مشاكل، لكنها رغم كل شيء بلاد مُسالمة وشعبها رائع،
وحاكمها محبوب بصدق من الناس. بلاد فتيّة تخطو إلى غدها الاقتصادي والاجتماعي
بخطوات ثابتة. الناس لا تحب الحكومة في عمان ولا تكرهها، الناس تريد الخير للناس
وللحكومة وللبلاد، إلا مَن ظُلم.
ولا
بلاد في العالم مثالية، هُناك من ظُلم، من ظلمته الظروف أو القرارات أو مؤسسات أو
شخوص في المؤسسات. السؤال الذي يميز عُمان هل الظلم فيها "واجب" أي إن
ظُلمت هل لديك مُشتَكى؟ وإن ظَلَمْت هل هُناك عفو؟ هُنا الميزة الكبيرة في عمان
التي إن اختلت توتر السرب لبعض الوقت.
وشوف
عجائبية عمان،كأني أكتب عن شخص آخر! يعود سعيد جداد ومعاوية في طائرة واحدة! لو لم
أعش التجربة بنفسي لما صدقت! تنظيم سري عُفي عنه، قضايا أخرى عفي عنهم، والوقت
يثبت في كل ثانية أن عمان ليس من شيمتها الانتقام بعد العفو، أو الغدر بعد إعطاء
الأمان!
من
يكره بلادا عفت عنه؟
من
يستطيع؟
والآن
أعيش في حزب الكنبة، مقتنع إني لا نفعت معارض، ولا موالي، ولا مؤيد ولا ناقد رأي
عام، ولا مجالد إلكتروني عن الهباء العاطفي الرائج، أنتمي لحزب الكنبة بمساهمة
إيجابية في محاولة الفهم. أن تؤمن بالتغيير هذا حق، لكن هل أنت جاهز ذهنيا وفكريا
ومستقر عاطفيا وعقليا لفعل ذلك؟
وعمان
بعدها بربّها، لديها من الفضائل السياسية الكثير والكثير رغم أخطاء من تسلط أو فسد
أو أخرج عمله العام عن القانون والعرف العماني، ليست دولة حروب، ولا أعدامات
بالجملة، تقدر تنتمي لمنظومة عمان العامّة بدون قلق كبير. ما لم يكن لديك تطلع
فلسفي خاص بك، هنا يختلف الكلام.
وهذه
مأساة كاتب السياسة في عمان، سياسة الكاتب. المفكر بعقله الفرد يدرس حال الجماعة،
وما يبدو فلسفيا يعكس منطقيا حالة عاطفية فردية، كأن تكون ضد الملكية، أو أن تكون
شيوعيا، أو أن تنادي بحكم إسلامي. فلسفة فردية نصيبها صناعة تغيير الواقع والصدام
المحتوم وهذا ما يختاره البعض بصميمية.
ومن
بين كل ما في عمان من فضائل وأخطاء، يبقى هذا الشعب مباركا بدعاء خاتم الأنبياء
والرسل، هذه الروح العمانية الغامضة المليئة بالحب، والوحدة. هذا هو إنجاز عُمان
الكبير، حب الناس الصادق لبلادهم، وحدتهم، وقلوبهم النقية عندما تطلب عُمان
التضحية. هذا أجمل ما في عمان وأبهى ما بها.