أتساءل فحسب، ليس لدي إجابات. أتأملُ، وأحلمُ، وأتذكر، وأعصر عقلي: لماذا هذا الحالُ الذي نحنُ فيه؟ كيف حدثَ ما حدث؟ باحثون عن عمل، وسوق اقتصادي هائل به مئات ألوف الوظائف؟ لماذا وصلنا لهذا الحال؟ هذه حكاية تستحقُ أن تُسرد، قصة القطاع العدو لمجتمعه، ولبلادِه، ولنفسه أيضا!
أعلمُ أنني أتحدث بحقدٍ وغضب، وأن كلامي لا يشملَ كل من في الاقتصاد العُماني، ولكن قبل التبرير، لماذا حدث ما حدث؟ كيف وصلنا لهذه الحالة الغريبة؟ ومن الذي يقاوم تغييرها؟ ولماذا؟ الطمع لا يحتاج لأسباب منطقية، والجشع لا يهتم لحال مجتمع أو وطن، إنها ضريبة العادة، والاستحقاق السقيم.
عام 1970: حرب، وسلطان شاب طموح يتولى الحُكم. المؤسسات شحيحة الوجود والعدد، الفقرُ والجهل والتمزق، إنقاذُ البلاد من خسارات أكبر كان أولويةً. العُماني إما مزارع أو بحار أو صياد، وقليل جدا من المتعلمين والمتخصصين. لا أسواق، لا نظريات اقتصادية حديثة، لا شيء تقريبا، مجرد أحلام!
تمر السنوات، البلاد في حالة نشأة، والاقتصاد أيضا. أين كان يعمل العُمانيون؟ لم يكن العدد كافياً من الأساس! سيارات الجيش تجوب الشوارع تعرض الوظائف، الثانوية العامَّة كانت تكفي، تقرأ وتكتب؟ أهلا وسهلا، لدينا بلاد قيد الإنشاء، ودولة قيد التأسيس والتمكين والتثبيت.
العدد لا يكفي، لا عدد العُمانيين، ولا الوافدين. القطاع الخاص قيد النشأة، يريد عمالاً، وموظفين، ومحاسبين، ومتخصصين، وسائقي نقل. الحرب تنتهي، وملامح النشأة تبدأ، النفط يضخ في عروق البلاد، أين العُماني؟ يُبحث عنه بإلحاح، لدينا جيش لنبنيه، ومؤسسات تحتاج لآلاف وآلاف وآلاف.
القطاع الخاص يصرخ، أريد عمالةً أريد موظفين! أين العمانيون؟ في بعثات دراسية، يتخرجون، أين يعملون؟ في التعليم، وفي الحكومة التي تحتاج للكثير والكثير منهم. يبدأ إدمان القطاع القاص الأوَّل، لا عمانيون! لا بأس، سأشغل الوافد، الحكومة لا تترك لي عمانيا ليعمل معي، سأجد بديلا حتى حين!
تكبر الدولة، ومؤسساتُها. جامعة السلطان قابوس تفرز الدفعة وراء الدفعة، قليلٌ من يعملُ في شركة، الحكومة بحاجة ملحةٍ للمتخصصين، القطاع الخاص يصرخ "أريد جامعيين" لا بأس، هُناك حل، جامعيون بنصف رواتبهم، لا بأس، سنقبلُ بهم، خذي يا حكومة موظفيك العُمانيين، لدينا بديل مُربح، فلنمرح!
تمر سنوات الثمانينات، وتأتي التسعينات. تكثر الشهادات، الدكتوراة كلمة تتداول، الماجستير شهادة نجاح وترقيات في الحكومة. القطاع الخاص ينادي، أريد باحثين؟ خذي يا حكومة الباحثين العُمانيين، لدي باحث مُربح، بنصف راتبه، لا بأس، أعجبنا الحال، كوّنا مجتمعنا العمّالي، وأعلنا استقلالنا.
تقتربُ حالةُ التوازن الكبير، اكتمل الجيش، وقوات الدفاع، التعمين يجري على قدمٍ وساقٍ في مؤسسات التعليم، والصحة. نقترب من نهاية التسعينات واقتراب القرن الجديد. القطاع الخاص يضع رواتبه كما يشاء، الجميع تقريبا ينتظر وظيفة من الحكومة، والتعليم بناء على سوق العَمل، والوظائف موجودة.
يزيد عدد السكان، يبدأ الاكتفاء المبدئي. الحكومة تواصل التوظيف، أصبحت الشهادة ضرورة ملحة، بدأ البعض يفشل في الحصول على وظيفة! جد شهادة وإلا فإن راتبك [120] ريال، القطاع الخاص يصم آذانه: ما عاجبنك الشغل، ألف وافد بدالك، دخلنا عام 2000، واكتفت الحكومة تقريبا من حاجتها للموظف العماني
تمرُّ سنوات الألفين. عدد الذين لا يعملون يزيد. توظف الحكومة فوق حاجتها، القطاع الخاص يطالب بالمزيد من المأذونيات، لقد كبر الاقتصاد، وتوزع كما شاء محتكروه الكبار. أين التوظيف؟ اذهب للحكومة! لدي وافد بنصف راتبك، أنت خسارة مادية كبيرة، خذ المائة والعشرين واسكت!
يستفحل الأمرُ. القطاع الخاص أصبح قطاعا قاصَّا. عنادٌ شديد، ورفضٌ منيع للعمالة الوطنية. التوظيف أصبح مهمة الحكومة فقط؟ ماذا عن القطاع القاص؟ سنأخذ بعض العُمانيين، قياداتٌ قليلة، ومتخصصون تورطوا في مهن مؤقتة: ماذا عن الباقي؟
ليست مشكلتنا! يقبل براتب قليل أو يجلس في منزله!
العُماني يسأل: أين الوظيفة؟ الحكومة تقول، سنحيل البعض للتقاعد، لدينا موظفون فوق حاجتنا بكثير، يتوظف القلة. أصحاب الشهادات بلا عمل، والقطاع القاص يعرض رواتبه الزهيدة ويقول للحكومة: أنا صاحب المعروف عليكِ؟ ألم أجلب لك أقلام الرصاص؟ وكأنها جلبها هدية من ماله الخاص!
الفورة النفطية، المشاريع المليارية، مليون وافد، الشركات تتعذر، هي التي تفعّل الاقتصاد، نريد امتيازات، نريد عمالة، لقد أدمنا الحال، لا نريد عُمانيا، يريد حقوقا، ورواتب، ولا نستطيع تسفيره ولي ذراعه بتجديد الإقامة! سنأخذ بعضهم، لتسكيت المجتمع، سنأخذ القليل منهم، مائة وعشرين تكفي!
يتفاقمُ الأمر. اكتملت مؤسسات الدولة، الحاجة للتجنيد شبه كافية، التقاعد قليل العدد، الوظائف الجديدة تشح، لقد انضم إلى سرب الباحثين عن وظيفة الخريج الجامعي. القطاع الخاص يعرض وظائفه برواتبٍ زهيدة. يحاول المجتمع أن يضغط على الشركات فترد عليه: العُماني ما مال شغل!
وبدأت اللعنة!
ترتفع أسعار النفط، تنتفض البلاد بالمشاريع، القطاع القاص يقص ما استطاع، يوفر التكاليف ويضع الاسعار، لقد ظنَّ أن له بلادا داخل هذه البلاد، الحكومة تتعامل مع وضع جديد، تغير بعض التشريعات فيرد عليها الرأسماليون بشتى أنواع الحيل، يقاومون بعناد، وطنهم المال، والربح، وعُمان!
مشكلتهم!
تضغط الحكومة من أجل التعمين. المعلمون بلا وظائف، المهندسون يتم إسكاتهم بتدريب بسيط. القطاع القاص ينشر دعايته في كل مكان [العماني ما مال شغل]، لا أريده، هذا يكلفني رواتب أكبر، أريد عمالتي الوافدة، نصف راتب، ألوي ذراعه كما أشاء! هذا العماني ورطة في سوقنا، في وطننا الربحي، ورطة!
أسعار النفط تنزل للحضيض، أزمة مالية. الحكومة امتلأت، الميزانية لا تسمح بالمزيد من التوظيف من أجل التوظيف. يبدأ الضغط، وتتغير بعض القرارات، الحد الأدنى يُزاد، تغضب الشركات، ليس لدينا إلا وظيفة سائق، وبالحد الأدنى، [تسكيته] لأن الحكومة تزعجنا وتضغط علينا. خذ وظيفتك أو اسكت!
الشركات تصرخ، العُماني مزعج، مُكلف، يريد حقوقاً، كيف ألوي ذراعه؟ أنا لست كفيلَه، العُماني يرفع قضايا، يريد كرامته. سأوظف بعضهم، سأحاول شراء بعضهم ليحقق سياستي، ليخفي سوأة الإدمان، لقد أدمننا على الموظف بنصف راتبه، ما بال هذه الحكومة تضغط علينا، نريد الربح! المجتمع ليس مشكلتنا!
يسمن الغول الاقتصادي، الشركات ترفض توظيف العماني. تريد عمالة وافدة، وتريد أن تبيع السلعة بضعف ثمنها، المُحتكر يُصنع من الخارجِ، ومن الداخل. يُحاصص السوق، الحكومة مشغولة بالشوارع، والموانئ، لا بأس، المال يتدفق، سآخذ بعض العمانيين، فقط ما دمت آخذ مناقصاتي، ربما تسكت الحكومة عني!
القطاع القاص يصرخ: أريد المناقصة بثلاثة أضعاف سعرها، لدي عمانيون معي، لماذا يا حكومة لا توظفيهم معك؟ المجتمع يضغط على الشركات، العماني يكشف حقيقة الوضع في السوق، المجتمع الرديف يُكشف للعلن، الحكومة تضغط، والقطاع القاص يقاوم: لا أريد عُمانيين، هذيلا ما مال شغل!
ينهار سوق العقار، يقل سعر النفط. أزمة عاصفةٌ تحدث في عمان، يزداد الضغط على قطاع جبابرة المحاصصة وتقسيم السوق. على مضض يوظف بعض العُمانيين، المجتمع يدخل حالةً من السخط، لا توظيف، الترقيات تتأخر، ويأتي اليوم الصعب: دورك أيها القطاع الخاص أن تساهم!
انتهت أيام الامتيازات!
القطاع القاص يستغل الوضع، تريد وظيفة؟ أنا أضع سعري! لدي جيوش من الوافدين تُغني عنك أنت وحقوقك أيها العماني الذي ما مال شغل! أنت زينة، فقط رقم وعدد يحسن علاقتي مع المجتمع ويخفف الضغط عني. مهندس السفن يعمل في شركتي بمسمى محاسب، أعلى ما في خيلك اركبه.
تغير الحكومة تشريعا، يتحايل الغول الاقتصادي. مناعةٌ سوقيَّة ضد العُماني، ويحدث ما لم يُحسب له حسابا، أزمةٌ ومظاهرات، وباحثون عن عمل يستغيثون، تتولى الحكومة دفع الثمن، التوظيف بأعداد كبيرة. القطاع القاص ساكت، يقول في سره: وطني ربحي، أنت وبلادكم لا تعنون لي شيئا!
تتغير البلاد، يتواطؤ البعض مع الاقتصاديين، يلعب اللعبة معهم، يحاول البعض تغيير الوضع. ثمة أزمة، وعجز، المشاريع الكبيرة بدأت تتوقف وبدأ الفطام. الرأسمالي يرد الصاع، ويسرح العُمانيين، وتبدأ لعبة لي الذراع التي استمرت تسع سنوات. سوف يفعل المستحيل ليتمسك بامتيازاته، واحتكاره.
تبدأ بعض الانشقاقات، بعض الشركات أحست بمسؤوليتها، جميع طاقمها عُماني، وبدأت بعضها بالتوظيف برواتب معقولة. المُحتكر الكبير يغضب، يحافظ على وافديه، يوظف العماني على مضض، الميزانية تدخل في حالة عجز سنوي. القطاع القاص يتربصُ، ويجهز لليوم الصعب، ليوم مواجهة الواقع. العماني ما مال شغل!
خُتمت مرحلة التأسيس. أدى الأب المؤسس أمانته، سلَّم البلادَ وحافظ عليها في حياته وفي وفاتِه. بدأت مرحلة الديمومة، انتهت ظروف النشأة، يحدث كورونا، تبدأ البلاد اختبارا جديدا، تخفيض الإنفاق! الكابوس الأكبر الذي يخشاه المحتكر الكبير، أريد مناقصات بثلاثة أضعاف سعرها! لن يحدث!
الرأسمالي ، يصاب بالهلع. بماذا سيسامعُ الدولة؟ بأقلام الرصاص؟ أم بأسلاك الهاتف؟ المجتمعُ يقترب من شركاته، سوف يأتيه اليوم الصعب، سيوظف عاملا وموظفا براتبه! موظف له حقوق! يجب أن يفعل شيئا، سوف يفعل ما بوسعه، سيسرحُ من يستطيع، الحد الأدنى! موافق عليه، سأتخلص من ذوي الرواتب العالية!
الأزمة سيدة الموقف! كورونا، والحرب الناعمة تبدأ. الحكومة تضغط، والشركات تسرّح، كل ثغرة ممكنة سوف تستغل. حشودُ الوافدين جاهزة بانتظار حالة التوازن المالي. ولكن الحكومة لديها خطة أخرى! إنها تريد اقتصادا حقيقيا، لقد أخذتم زمنكم، وامتيازاتكم أيها الرأسماليون، نريد اقتصادا حقيقيا!
الرأسمالي يقاوم. الأزمة تضربه من هُنا، يتعذر بالخسائر، والضغوط تزيد عليه. يرتفع الدعم، تبدأ الضرائب، الرأسمالي الجريح يريد وضعه السابق، يريد أن يضع سعره على الحكومة والناس، يريد أن يبقى مسيطرا. يقاوم، يسرح، يتلاعب، يغير ما يشاء، اليوم الصعب قادم، والهلع يستبد به، فيسرح ويسرّح.
الرأسمالي يصرخُ بوقاحة: أريد أرباحي كما كانت! لا أريد سوقا تنافسيا، أريد سلطتي. المجتمع مجتمعكم، وطني أرباحي. يا حكومة ادفعي لي، يا إلهي! أنتم تأخذون الضرائب الآن؟ لماذا؟ لماذا تفعلون ذلك بي؟ أريد أرباحي، وامتيازاتي وجحافل الوافدين، لا أريد العُماني إنه ما مال شغل! أنا في ورطة!
أعرف ماذا سأفعل! سأسرحهم. لا أريد اقتصادا حقيقيا، لا أريد سوقا تنافسيا، أريد أرباحي! حسنا، خذو العمانيين، أريد مناقصاتي بثلاثة أضعاف سعرها، أنا وطغمتي وربحنا أهم من مجتمعكم هذا. والحكومة على رأسي، التعمين قادم! يالها من كارثة؟ سوف أضطر لممارسة التجارة فعلا! لقد انتهى زماني السهل!
الرأسماليون يُضاف لهم عنصر جديد، إنهم يدمرون دعايتي! العمانيون يعملون، يقودون الشركات! ينتجون! كيف أحافظ على وضعي السابق! لقد أدمنتُ على الموظف بنصف راتب، لا أعرف التجارة دون أن ألوي ذراع عمّالي بالإقامة، والكفالة! الاقتصاد الجديد مرعب! سأسرحهم، يجب أن أقاوم: لا أريد العمانيين!
المجتمع يضغط، وعيه يغير السد المنيع. التعمين بدأ، وثمَّة كابوس نزل عليك أيها المحتكر صاحب حشود المأذونيات، المتعذر بفترة النشأة، الضريبة! إنها في الطريق. التوجه إلى دولة اقتصاد، جاء يومك أيها الرأسمالي.
الرأسمالي يقاوم، يسرّح، يفعل كل ما بوسعه ليؤجل المحتوم. السوق ليس لك!
المعركة ناعمة، الدولة توازن شؤونها المالية. الهدف الكبير، اقتصاد ناجح. الرأسمالي المتمسك بموظفٍ بنصف راتبه يصاب بالذعر، منافسه يوظف العمانيين، المجتمع يختارهم، التدقيق يشمل كل شيء، سوف يتزن كل شيء، وسوف يتفرغ ضدي الحكومة والناس: أنا في ورطة! أريد عمالتي الوافدة! لا أريد عمانيين!
العيون كلها على واقع الاقتصاد، الحكومة تقول بالفم المليان: لا للحلول التخديرية، توظيف آلاف في حكومة ممتلئة بالموظفين لم يعد حلّا، أيها القطاع القاص، جاء الوقت الذي تفهم فيه أنَّك في مجتمع، وفي بلاد، وأنَّ جشعك ثمنه باهظ. الضريبة قادمة إليك، وستدفعُ قيمة مأذونياتك وتسريحك قريبا.
وهذه حكاية الغول المذعور. أدمن سنوات قلة عدد السكان، اعتاد على عامل ملوي الذراع بنصف راتب، حاصص السوق ورفع السعر واتخذ توظيفه للعماني عذرا وحجة. التغيير في الطريق وسيأخذ وقتا والضغط عليه كبير، وهو موضوع وقت وسيقاوم ليمد في عمر مصالحة سنوات إضافية. سأكون كهلا وقتها
وسأحتفل بجذل!