الوسط الثقافي من يومِه يميل لليسار، والتعددية، وبه جمع غفير يؤمنون بالحوار والتعددية. الوسط المحافظ يميني، وبه جمع غفير يؤمنون بالحوار والتعددية والجدال بالتي هي أحسن، ما يحدث الآن هو النتيجة الطبيعية لما حدث من إقصاء وحصار امتد لسنوات للصوت الثقافي، ولدور المؤسسات الثقافية.
وصدق القائل: "الوطن هو ألا يحدث كل ذلك" .. لا ضرورة معلومة لكل ما حدث. وما أن يُحيَّد صوت الثقافة، ومؤسساتها، وحواراتها فإن الاشتباك الاجتماعي نتيجة حتمية. في عُمان عادة يحدث في بداية المراحل والمخاضات. عسى أن يؤدي إلى هدوء بعد كل هذا الصخب وحوار مبدؤه الرئيسي التعايش مع الآخر.
والذي ينكر ميول التيار الثقافي لليسار الليبرالي، كمن ينكر السلطة المعنوية للتيار الدين، وقدرته على استخدام وسائله الاجتماعية لمضايقة من يختلف معه، هذه أيضا حقيقة مثبتة تاريخيا، وتشهد عليها الكتب والتصريحات.
ما الحل؟
لا حل سوى الحل القديم، الحوار الكلاسيكي، وكظم الغيظ ما أمكن.
وليس لدى التيار الثقافي ميول مركزية، فهو بطبيعته مختلف مع بعضه البعض، ومجادلاته حول ماهية الصواب والحقيقة لا تتوقف، أما الوسط المتدين فلديه ميول مركزية، ومؤسسات عالية الجاهزية، وطمأنينة نتيجة الارتباط التاريخي بين عُمان ودين الإسلام.
والحمد لله اقتصرت المناوشات على تويتر.
تغيرت الأسئلة الثقافية الكُبرى في عُمان. والجيل الفردي الجديد بكل ما يكتسبه من قيم تعزز استقلاله الفكري أصبح شبه منعزل عن كل سجالات الجيل السابق، والذي ينشغل في غوايته السابقة.
هُناك لغة جديدة تُنحت للشجار اللغوي، وأظن أن هذا هو الملمح الإيجابي الوحيد في كل ما يحدث.
وهذه حالة العود الأبدي التي تحدث منذ عشرين سنة في عُمان. فإما انتهت إلى حوار ثقافي أساسه [المجتمع للمجتمع] وإما تحول إلى ظاهرة استدعاء للسلطة للتفريق بين المتخاصمين. عاد من يدري؟ مثل هذه الشؤون الكبيرة هي عمل مؤسسات ثقافية مستقلة، وعمل نقدي مستمر. فهل ما يحدث بذرة لحدوث ذلك؟
عسى!
ولا يفوتنا أن نركز على حقيقة واضحة المعالم. للمؤسسة الدينية في عمان نظامها القديم، ومؤسساتها، ومساحة واسعة، ودعم، وتمويل، ووحدة اجتماعية، واقتناع مجتمعي. هل يمكن أن نقول ذلك عن الوسط الثقافي؟ الذي خرج للتو من سنوات متتالية من الشيطنة والتهميش وغير ذلك من ممارسات؟
وهل هي خصومة عادلة؟ من الأساس؟ بين طرفين متساويين؟ المنظومة الدينية بكل تاريخيتها، ودورها الاجتماعي والسياسي في رسم المساواة، وحماية المجتمع من المذهبية، والانقسام الطائفي، ومؤسسة ثقافية كل ما قامت على سوقِها قطع جذعها ورميت ثمارها في الطين؟
لم تكن يوما ما خصومة متكافئين!
الحوار حتى هذه اللحظة [اجتماعي - اجتماعي] هذا هو الأمر المبهج الوحيد في هذا الجدال الصاخب، والصحي، والنافع للحرية الفردية والدينية. ما أعجب الحياة! أن يكون وجود خصمك أحد أسباب رسمك لحريتك! إن استمر هذا الحوار بهذا النضج وهذه الفردية لسنوات، أقدر أقول إنه سيحدث الحوار لا محالة.
ما أخشاه بكل صدق هو انقلاب الآيات، ودخولنا في معمعة سنوات متتالية من كاميكازية المنظومة الدينية، ودخولها عالم الصدامات مع السلطة ومع الوسط الثقافي، وستكمل المأساة إن ظن الوسط الثقافي أن هذه فرصته لينال الحظوة والسطوة لدى السلطة. ويتكرر سيناريو قديم ودائرة لم يكسرها أحد الأجيال.
ومن الملحوظ أن السلطة تقف موقفاً بعيدا عن الطرفين، إن امتد اليسار وخرج عن الخط المحدد له تتدخل، وإن امتد اليمين وخرج عن الإطار المحدد له تتدخل.
قلة عدد معتقلي تويتر، ظاهرة صحية، وأتمنى أن تستمر. وعسى يتحول الأمر مع الوقت إلى استدعاء بدون حبس، كما كان الحال قبل سنوات وسنوات.
وهذه فرصة تاريخية، قد تفشل وتتحول إلى شجارات وفي النهاية سيقع السقف على رأس الجميع، أو قد تؤدي سانحة الحرية هذه إلى تكوين أسئلة التعايش. وهذا معناه نهضة ثقافية، وتنظير متبادل، وأنهار جارفة من اللغة، والعمل الثقافي، وربما ربما: الإعلام الذي لا يعتزل شؤون المجتمع كما يحدث الآن.
وأظن أننا كلنا نعرف إجابة سؤال [لماذا؟] الباقي حديّة سؤال [هل؟] .. أنا شخصيا سأترك الكتابة في الشؤون العامة نهائيا إن وجدت أن الحالَ سوف يتحول إلى مهرجان صدامات، وكاميكازية، وبالتالي اعتقالات، وتسليط فئة على فئة. كل هذا الارتفاع في سقف الكلام سوف يذهب إلى الرماد إن حدث ذلك.
ولأننا في عُمان، ونعلم واقعها الحتمي، الجميع يعلم أن السلطة تتدخل إن فشلت نُخب المجتمع في إنشاء طاولة حوار. وإن قامت هي بإنشاء هذه الطاولة فهي مشروطة بالكثير من الشروط التي ستجعلها تُفقد الطرفين قدرتهما على التعبير عن آرائهم بوضوح. هل سينشئ أحدهم طاولة اجتماعية في وقت قريب؟
وعادةً يتولى هذا الحوار الأزلي مؤسسات، فهو ثقيل، وعبء هائل وفوق قدرة أي فرد. فإما استضافت المنظومة الدينية اليسار الثقافي وناقشته في منابرها، وإما حدث العكس. هذه المناوشات الحدودية جزء من الحياة اليومية في عمان، الجديد أنها عاودت الظهور علنا، وبدأت تكتسب لغةً جديدة في الجدال.
ولا يمكن أن نظلم أحد الطرفين ونصفه بالشطط والغلو بسبب قلة قليلة منهم. هذه النماذج من القلة الشاطحة دائما ستكون موجودة، عندما نأتي إلى وصف الأغلبية الوسطية، ستجدُ لهفةً على الحوار، ورغبةً شديدة في صناعة لغة نقدية غابت عن مكونات المشهد العُماني قرابة عقد كامل. لأسباب يعرفها الجميع.
وماذا الآن؟ إما هدوء الصخب، وخروج العقلاء من مخابئهم، للحوار، أو انتظار الصخب القادم. وهذا الجيل الجديد يعيش ظروفا مختلفة عن الذي سبقه،وهو أكثر عددا، واندفاعا. والباقي لا يمكن أن يتوقعه أحد.
إما حوار، أو انهيار لهذا السقف الجديد وعودة الخطاب المقيت:
"هذا المجتمع ما ينفع معه حرية"
والبعض يستنكف أن يصف المنظومة الدينية في عمان بالهادئة والمُسالمة. فهي مساهم فاعل في المجتمع، وتضطلع بدور كبير، ولها مصداقية عالية، ولا أقصد المنظومة الدينية الرسمية، أقصدها كلها، التعايش المذهبي في عمان، أحد الأمثلة. هي منظومة لها عملها الثقافي، ومصداقيتها الاجتماعية.
وللشخصيات البارزة في هذه المنظومة تأثير قوي، سياسي، واجتماعي. وسأدع التأثير السياسي لها من باب [حفظ النفس]، وسأتحدث عن التأثير الاجتماعي. هي حاضرة، ومتفاعلة مع المنظومة الاجتماعية، ويمكن القول بسهولة أنها تنال رصيدا اجتماعيا كبيرا من الحب والتأييد.
لا يمكن أبدا أن تقارنَ متانة، وامتيازات، وحظوة، ومؤسسات، وتنظيم، ودعم المنظومة الدينية في عمان بالوسط الثقافي، بكل ما فيه من فردية، وشتات، وخروجه القريب من أقسى عقد مر على الثقافة في عمان.
إن كان على أحد أن يكظم الغيظ، فهي المؤسسة الدينية. فلا هي ضعيفة، ولا مشتتة، ولا مقموعة.
وهذا الصوت الثقافي ليس جديدا، وأستغرب من يزعم جدته وأنه جزء من مؤامرة كبيرة تستهدف القيم والأعراف والدين. الجديد أنه عاد للسطح، عاد للكتابة العلنية، وهذا السقف الجديد للكتابة في عمان، لا أعلم هل يستمر أم لا. ولكن كل هذا ليس جديدا، لكنه طفا للسطح أو بالأحرى عاد ليطفو.
وسيكون مؤسفا كل الأسف، ومؤذيا كل الأذى للحرية الفردية، أو فلأقل [للإمكانية] الفردية للتعبير عن الرأي إن تحول الوضع إلى صراع غير منصف، سواءً أن يشيطن المثقف المؤسسة الدينية، أو أن يحدث العكس، هذه ستكون خسارة كبيرة، وضياع فرصة نادرة قد لا تحدث إلا بعد سنين.
"أعتب على مين؟"
وهذا ما أستطيع له قولاً.أنا لا أمسك العصا من المنتصف، ولست محايدا،وأميل لليسار الثقافي لأنه الأضعف، والأقل تنظيما، والأقل عددا، والأقل تأثيرا، والأقل منابرَ ومؤسسات. ربما في عمرٍ سابق كنت ساصطف معه في هذه المعركة، أما الآن أقف هذا الموقف الأبله المائل لليسار، المؤمن بحرية الجميع.
وقد بدأ غياب هذا الجدال عن مؤسساته الاجتماعية في إفراز بعض الظواهر السيئة. مثل الُمحافظ [فلان] الذي يتحدث ليل نهار عن الخطر الساحق الماقح الداهم الذي سوف يضرب بصواعقه الجيل. أو الليبرالي فُلان، الذي يحذر، ويتوعد أن المطاوعة سوف يضربون الناس بالخيزران في الشوارع.
بروباجاندا مقرفة!
وبكل صراحة نعتب على مين؟ الإعلام؟ ينأى بنفسه كل النأي عن هذا الجدال الفكري، المؤسسات الثقافية؟ عدده أقل من أن يحمل هذا العبء. نضيّع أعمارنا في الإنترنت والتدوين على أمل مجيء ذلك اليوم الذي يمكننا أن نكتب فيه ما نكتبه في تويتر بدون مزاجية الرقيب الإعلامي، وغرائبيته.
هذا ما كان في عقلي وقلبي من كلامٍ وهو [رأيي] الفردي الذي لا ألزم به أحدا، ولا أمثل به غير نفسي. "أعتب على مين؟" كلها عشر سنوات وسأكون خمسينيا يُلاحق الباقي من العُمر والشباب. أقصى ما يمكن أن يفعله المرء هو التأسيس للقادم، والحلم، والكثير من الأمل.
معاوية الرواحي