مرَّت سنوات طويلة منذ أن
اختلطتُ فيها بالوسطِ الثقافي، وبالفعاليات والمَناشط الأدبية. اخذت الاختيارات
التي اتخذتها إلى حياةٍ بعيدةٍ كُل البعد عن تلك التي أحلمُ بها، وكلها كانت تتعلقُ
[بالهذونة]، وهي الكلمة التي أستخدمها عامدا متعمدا لتحل محل كلمة [الكوميديا]. هذا
كان حلمي الأوَّل، وقد حققتُ فيه مساراً لا بأس فيه، وثلاث سنوات جيدة للغاية من
الكتابة المنهمرة في مختلف شؤون الحياة، بلا خطاب كراهية، بلا تجارة يأس، بلا
اختلاطات عقلية، وذهنية، وبلا مشاكل، وسجون، ولكن حدث ما حدث وإذا بي أدخل تجربة
الحياة الأشد والأقسى والتي أعادت تكويني من الألف إلى الخاء. كان آخر عهدي
بالفعاليات التي أحبها، قبل سنوات طويلة عندما كنت أحضر عروض الحسن الصبحي، وعبد
الحكيم الصالحي، ومهرجان المسرح الذي لا أعلم هل أصبح فقيدا أم هو الآن ضمن هوية
جديدة، وطبعاً مسرحيات فرقة الدن للثقافة والفن، الاسم الذي أذكره منذ سنوات طويلة
في ذاكرتي السمائلية.
بدعوةٍ من الصديق الكبير [بو
غياث] قررت أن أذهب لمشاهدة المسرحية في مسرح كلية الشرق الأوسط. بكمتي، وبهيئتي،
وبثلاثة إسبرسو كنتُ في مزاجي الهذوني في أعلى درجاتِه، أجدُ نفسي في قاعةِ
الانتظار مع سفراء دول عربية صديقة، ومع المدونين والإعلاميين، إسبرسو ثالث، وكنت
في مزاج منتشٍ، جاهز للضحك، ومتمنيا أن أخوض تجربة مسرحيةٍ حقيقية، كنت أعلم في
قلبي أن شيئا كبيرا قد تغير في فرقة مسرح الدن، وأتابع سالم الرواحي، وأعرفه ولذلك
دخلتُ في مِزاج [إسْبْرَسَوَيٍّ] لأتابع المسرحية!
تدور الحبكة كُلها في عالمٍ
بلا بطلٍ محدد الملامح، ولا شخصيات ثابتة، كُلها تتغير وتلف تدور وكأنك في بانوراما
حياتية تدفعك رغماً عنك لمتابعة المسرحية دون أن تغفل عن مشهدٍ من مشاهدها.
يمكنني أن أختصرَ ذلك المشهد
الشبابي الرائع الذي شاهدته بكلمة [المبدع يتصرف]، فقد احتوت المسرحية على الفنون
الغنائية، والإيمائية، وتقليد الأصوات، والرقص الفكاهي، والحوارات ذات الرسائل
العميقة، وتقمص الشخصيات، وعامل الجذب البصري، وقطبية البطل، مع قطبية البطولة
المضادة، حفلة هائلة من التغييرات كل ما احتاجت إليه هو [بنطال وقميص]، ونعم، هذا
كل ما احتاجت له المسرحية من تجهيزات، تخيَّل! لن تفهم شعوري حتى تشاهد المسرحية
بنفسك وترى اعتمادها على الموهبة الصافية، وكل سنوات التعلم من الأقران، وتبادل
الخبرات التي حدثت في حاضنة فرقة مسرح الدن!
ضحكتُ حتى جلجلت ضحكتي وملأت
المكان، كأنني جالس في [كنبة] منزلي أتابع مسرحية في اليوتيوب! انفصلت عن الواقع
المحيط بي، وغرقت في تلك الموهبة المبهرة! كنتُ أتذكر سنواتي الأولى التي مارست
فيها هواية التشكي، وكررت فيها حالي حال كثيرين [غياب الدعم، غياب الدعم، غياب
الدعم] لتأتي هذه المسرحية لتقول لي ما للأجيال الجديدة القادمة من قدرات على
التصرف، ونعم المبدع يتصرف، ويصنع مساحته الإبداعية وفق المتاح، بل ويمكنه أن ينجح
نجاحا باهرا.
كان عصيرا من المواهب، تجانسَ
ليعطي النكهة النهائية للمتلقي، ليخرجَ من تلك المسرحية منشرح الفؤاد، [هذونة/
كوميديا] من طراز رفيع، كل ما احتاجته هو الإخلاص للعملية الإبداعية، وذلك الإخاء،
والوحدة، والتناغم لأخرجَ من ذلك العمل وقد نسيتُ الاعتياد الإبداعي المسرحي
العُماني على [مناقشة هموم المجتمع] إلى عملٍ [يفرج هموم المجتمع]. وأنا أتابع
المسرحية وصلتُ إلى أقصى درجات الهذونة داخليا، شعور بالانشراح والبهجة، والانتماء
لكل ما يُقال، كُنت أرى مجتمعي، وشؤون بلادي، وشؤون أجيالنا، والحوار، مع
المهاراتِ المبدعة، وحتى الــ[Beat
boxing] الذي لا
أعرف له ترجمة باللغة العربية. لم يتألق سالم الرواحي في هذه المسرحية، لقد تألق
الجميع. وكل ما احتاجته هذه المسرحية هو الإخلاص، والإخاء، ليثبتوا لي ما قاله
محمود درويش ذات يوم [من أبسط الكلمات تولد أكبر الأفكار]، وفعلا، من أبسط
الأدوات، ولدت أكبر المشاهد، البصرية، والنقدية.
خرجت من القاعة مشحونا
هذونيا، وكان لا بدَّ أن أعيشَ لدقائق دور المثقف أميجو، وأن أسمع لفظة [الأستاذ
معاوية] تتكرر، ولا أعلم ماذا أفعل بهذا سوى أن أضطر للجدية، وأسلم على الناس
بحرارة. أسمع لفظة [ماريو] فأنتبه لمن ناداني بها، وأعلمُ أنني أستطيع أن أتخفف من
كل تلك الجدية الخانقة التي تحاصرنا ولا أعلم لماذا لا نستطيع كسرها. كانت تجربة
مدهشة، وكم يسعدني أن أكتب في يومياتي عن ذلك اليوم المجيد.
ماريو