بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 11 مارس 2023

حضور ذهني: أسئلة القيمة!

 

 

ينفث سيجارته على يمينه، وكأنه يحافظُ على الكياسة الاجتماعية، ويتجنبُ نفث دخانَه في وجهِ الكامرة التي تفصلُ بيننا وتجمعنا في آنٍ واحد. تتجلى عليه سيماء المُعالجِ النفسيِّ ذي المزاج الرائق، المتجاهل لذلك الذعر والقلق الذي أفيض به عليه من جانبِي الآخر من الاتصال المرئي من تلك البقعة الجغرافية التي اسمها عُمان. لم يعد يردد على مسامعي التأكيد المُطَمْئِن أن جلساته المجَّانية معي لا تعني أنَّه يأخذ العملية العلاجية باستخفاف، ويقاطعني عندما أقول له: هل أطيل عليك؟ هل آخذ من وقتك؟

-       أنت لا تأخذ من وقتي، أنت تنفعني كما أحاول أن أنفعك، أعرف منك أشياء جديدة، وبعد سنين سنكون زملاءَ في الحقل نفسه، الأمر لا يتعلق بالمال بقدر ما يتعلق بتبادل المنافع. هل تكرارك لهذه الجزئية تعود إلى عدم ثقتك بي؟

أؤكد له بهلعٍ أن الأمر لا يتعلق بذلك. أهدأ وكأن هذا السؤال كان القرصة التي أحتاج إليها لأتوقف عن تضييع الوقت في الشعور بالخجل. ذلك الألماني الذي جابَ العالم طولا وعرضا، درسَ في أعتى الجامعات، وعمل في مختلف الظروف مع مختلف العملاء، في السجون، في المصحات النفسية، تعامل مع مئات الطلاب، وقدَّم جلساتِه التحفيزية لألاف البشر. أحاول دخول لحظة التوعية النفسية الإدراكية معه، ويوقفني هذا الحاجز في بداية كل جلسةٍ من جلساتنا. تناقشنا في وقت سابقٍ عن هذه الجزئية، وشعوري بالخجل من فكرةِ أن إنسانا مثله لا يُقال له كلاما عاديَّا، وأن هذا حاجز يلعب دوراً في كلامي. يشرحُ لي: أنت حالة إنسانية تعلمني الكثير، شيء اسمه العرب، شيء اسمه الإسلام، شيء اسمه عُمان، وبلغة شارحة مستفيضة، استثمر هذا الوقت وانسَ كل هذه الحواجز.

لم أؤمن يوما ما أنَّ إنساناً يمكنه أن يساعد شخصا آخر [بالكلام]. أخذت الفكرة مقام السخف لسنين طويلة قبل أن تأخذني الحياةُ إلى بداياتي في عالم علم النفس، وما جاء مع ذلك من تهيِّب لهذا المحيط الواسعِ من التجاربِ، والحقول، والكشوف العلمية، والارتباط الكبير بين هذا العلم وباقي علوم الفلسفة، والإعلام، بل والسياسة، وآثارها على العلوم. علمُ النفس هو أوَّل العلوم التي نتعلمها ونحن نتعلم أنفسنا، أو كما يقول المصطلح الأنيق [نبحر في جوَّانيِّتنا] والذي يمكن استبداله بسهولة بتعبير أسهل فأقول: [نتعلم عن داخلِنا]. نفعل ذلك في بدايات الطفولة، ونتقنُ ذلك بعض الشيء قبل أن نكمل باقي الحياة ونحن نحاول أن نتعلم عن نفوس الآخرين. نكتسبُ هذه المهارة بعض الشيء ونأخذ منها ما يكفينا لكي نحاول تحقيق طموحنا في هذه الحياة. ولأنَّ الوعيَ لا يخلو من مشاكله المنطقية، نتوقف في مرحلةٍ ما عن النبشِ في الفوارقِ بين داخلِنا، بما به من لاوعيٍ مؤثر، وخارجنا بما به أيضا من تأثيرٍ لا وعي، نوقعه في الآخرين، ويقع علينا منهم. هُنا تأتي قيمةُ المُستشار النفسي، أو المُعالج النفسي، أو المُرشد النفسي، أو أية تسمية غير رسمية نحدد بها هدفنا من الجلوس إلى إنسان بنا قدر لا بأس به من الثقة أنَّه [يفهم الذي يفعله].

جمعتني الصدفُ بهذا الألماني الداهية في ظروفٍ لا محلَّ للكتابة عنها الآن، كيف صرنا أصدقاء، وكيف أصبح مستشاري النفسي لهذه حكاية أخرى. لم أشعر بحاجة للإرشادِ النفسيِّ بقدر ما شعرتُ في هذه الأيَّام الأخيرة من حياتي. بذلت جهدا شاقَّا بمعنى الكلمة لأنتشلَ نفسي من حالةٍ اجتماعية، وشخصية، وصحيَّة، وسياسية، وفلسفية تمزقتُ في تجاذباتها لسنين، وتشاءُ قلوبٌ وعقولٌ أخرى أن تعطي لوجودي في حياتي وفي مجتمعي فرصةً جديدة، لم يكن ذلك بيدي، كنت أريدُ ذلك. هذا هو الوضعُ الذي أطَّر لقاءاتي به، الرغبة في حدوث كل ذلك، وقد ظننت أن حدوثَها سيعني الدخول في منطقة خضراء من الهدوء، في جزيرة في وسط المحيط تشرق عليها الشمس، أجلس فيها على كرسي من الراحة. ما حدثَ كان هو العكسُ تماما، ذعرٌ شديد، وهلعٌ دفعني للاتصال به عدة مرات في قلب الليل لأقول له: أريد جلسةً عاجلةً معك.

ميزةُ التعامل، أو ربما في صياغة أخرى [التعاقد] مع معالجٍ نفسي أنَّك تتجاذب أطراف الحديث مع إنسانٍ مدرَّبٍ على تجاهل فطرةُ إطلاق الأحكام التي قد تكبِّلنا كبشر. أنت مع إنسانٍ يسمعك، ومن خلال حديثك يطبِّق علمه التجريبي، ينتبه إلى ما هو خارج وعيك، فينبهك لأشياءٍ لعلك كنت غافلا عنها. خلال جلساتي الطويلة معه بدأت التأقلمَ بعض الشيء مع هذا الشعور، الحديث مع إنسانٍ بعيدٍ عن حياتي، وإخباره بالذي يحدث فيها.

-       لماذا تشعرُ بالهلع؟ ألا يجبُ أن تكون في قمَّة سعادتك؟ الذي تعيشه هو النجاح بالمقاييس كلها؟

أشرحُ له مخاوفي. شيء مقلقٌ للغاية يتعلق بالعدوانية الشديدة. أفكارٌ وخيالاتي تتعلق بالقتلِ، والانتحار، كلها تنصبُّ حول غريبٍ غير معلوم. حربٌ مع جانبٍ من الدنيا أعلم بوجوده، ولا أعلم عنه شيئا. أشرحُ له مخاوفي، خوفي من الأعداء الذين قد يقومون بإيذائي، خيالاتي المستعدة للدخول في معركةٍ أخيرة نهايتها القتل أو الانتحار، استعدادي للعودة إلى حياةٍ من الانتقام. أعلمُ في قلبي أن هذه الحالة مرتبطة بكل إنسان مرَّ بالصدمات، وأن تلك الجملة شائعة التداول [الذي تعود على الشقاء تشقيه الراحة] تنطبق علي. شرحتُ له ذلك وهو يبتسم، وكأنه يوكد لي أن الوعي بالنفس لا يعني بالضرورة القدرة على التعامل مع هذه المآزق غير الظريفة التي توقعك فيها. بعد ساعةٍ كاملةٍ من الشرح، وتوتري الشديد من هذا العنف الذي أتخيله، وتساؤلي عن السبب الذي يجعلُ عقلي منصبا في انتظار الخسارةِ الكبيرة. أطَّرتُ ما يحدثُ لي من تغييرات من مداخل متعددة. الشعور بالامتنان حاضرٌ بشدةٍ في ذهني، أسمي نزعتي لإرضاء الآخرين بتسميات متعددة، فهي ردُّ الجميل، وهي القيام بدوري، وهي أشياء كثيرة. في عالم علم النفس كل هذا غير مهم، الإطار الاجتماعي لا يغير من حقيقة تصنيف السلوك، [سلوك لإرضاء الآخرين]. لماذا أفعل ذلك؟ السبب واضح لدي، إنسان كان منبوذا، يعيش في حالةٍ اجتماعيةٍ لا تسمح له بالاندماج، الغرباء الذين يسقطون الأحكام بوفرة وبذخ جعل ذلك حياتي جحيما، وأوصلني إلى حالٍ من عدم القدرة على العودة لحياة اجتماعية. بذلت جهدا شاقا بمعنى الكلمة للعودة إلى ما يشبهُ الحياة الطبيعية التي تسمح لي بتكوين الأصدقاء، والتي تردعُ الغرباء عن تشويش مسار حياتي، وبالتالي عن طموحي في حياةٍ اجتماعية أساسها السعي للنجاح، وللتحقق.

كان يسمعني ويتدخل من وقتٍ لآخر، يتأكد من إدراكي لواقعي الحالي. قدرٌ مبهج من الحضور، والالتفاف الاجتماعي، عودتي إلى حقي المنطقي كمثقفٍ عُماني في تناول شؤون الفكر، والمجتمع. استردادي لاعتباري ككاتب له احترامٌ لا بأس به، نهاية تربصي بالسلطة، أو تربصها بي، وتنظيفي لدائرتي الاجتماعية من أي [صديق/عدو] يمارس السمسرة على لحظاتي الهشَّة، أو الثرثرة عن خصوصياتي. شرحتُ له في جلساتٍ سابقةٍ عنما اضطررت لفعلِه، [ضع خطا تحت كلمة اضطررت لأنها ذات دلالة] وتناول معي فكرة اللوم، والشعور بالذنب، والندم، والتبرير. أخبرتُه عن حذري الشديد، وصعوبة ثقتي بالآخرين، وعن خططي الجاهز للانتقام من أي إنسان إن وصلَ إلى مرحلةٍ كشف لي فيها بما لا يدع مجالا للشك المنطقي أنَّه متربصٌ دخل حياتي، وبقي فيها فقط لكي يتشفى بسقوطٍ كبير، كما حدثَ ذلك من قبل ممن كنت أسميهم أصدقاء. قطعتُ شوطا كبيراً معه في إعطاء وصفٍ جديد لكل ذلك، وصف أكثر منطقية، وأقل انحيازا، وأوضحُ من إعادةِ المماحكة، وشرح الحدث نفسه بصياغات مختلفة، أنا خائف من الخديعة، وخائف من الغدر، وقلق للغاية من إمكانية تحول أي جزء من الدفاعات التي بنيتها إلى ثغرة يلجُ منها خصمٌ قديم، أو عدو موتور كل الذي يفكر به هو الانتقام مني. التفكير في القتل، والانتحار هو الذي أثار قلقي، ولذلك كنت بحاجةٍ للجلوس معه، لأفهمَ لماذا.

يسألني: هل تفكر بإنسانٍ معيَّنٍ؟ شخصٍ معيَّن؟

أوضح له:

كلا، إنني أهدد شبحا بالقتل. اما الانتحار فهي النهاية الاضطرارية التي إن وجدتُ نفسي أعيش هزيمةً لا تسمحُ لي بالحرب. يقاطعني مرارا ليستوضح عن سبب اختياري للمصطلحات. أتعامل معه كما لو كنتُ أنا خارج سيطرتي على نفسي، وكما لو أنَّ هذا سيحدث بالضرورة، ناقشنا ذلك من قبل، وأوضحَ لي لماذا أفكر بهذه الطريقة. الذي أثار قلقي هو سبب حدوث ذلك بعد أن أخذت الحياة مسارا جميلاً، ووجدت لنفسي موطئ ذهنٍ في هذا المجتمع الذي أنتمي له. أخذت أكثر من ساعةٍ قبل أن يهدأ صوتي، وتنتهي حالة [الفضفضة] ويبدأ التحليل لأسباب ذلك. يأخذنا النقاشُ إلى أسباب ذلك، أشعر بالهدوء، أبدأ بالاقتناع بعض الشيء، وتأخذ عملية التفكيكُ المنطقي لتلك المخاوف غير المنطقية طريقَها. وعندما وصل الاتفاق إلى طريقة جديدة لشرحِ ما يحدث، شعرتُ بالهدوء، فالأمر لا يتعلق بنزعة مرضية تهدف إلى الانتقام، والقتل، والانتحار، كان الأمر أبسط بكثير من ذلك الذعر.

لقد انتقلتُ من كوني إنسانا غير مبالٍ، بمصيري إلى إنسان يعبأ بشدة بمصيره. شرحَ لي كيف أنني تحولتُ إلى أحد [فناني الألم]، هؤلاء الذين يعلقون أجسادهم بخطاطيف، أو يجرحون وجوههم بالموس، يتعمدون أن تلدغهم الدبابير، فنانون استعراضيون حولوا مشاكلهم النفسية إلى مصدر دخل يغذي الجماهير التي تدخل لترى شخصاً يضرب رأسَه بلوح خشبي مليء بالمسامير، ينزف دمَه، دون أن يقطع عروقه، أو أن يعمي عينيه، وبعد نهاية العرض يذهب للطبيب، الذي يضمد هذه الجروح ويعطيه جرعة من المضاد الحيوي ويذهب للراحة لعدة أسابيع حتى تشفى الجروح. فنانوا الألم هؤلاء يتعاملون مع ندوبهم كعاملٍ إقناعٍ للجماهير الجديدة. ونعم هذا ما كنت أفعله، أتباهى بقدرتي على إيذاء نفسي، وعلى التعالي على بقية الناس الذين لم أشعر بالانتماء لهم، عوضا من أن أجرِّح جلدي، كنت أشوّه سمعتي، وأستمتع أن أكون مكروها. عندما تكون مكروها لا يخلو الأمر من شكلٍ مريض من أشكال الحريَّة، ألا تعبأ برأي الناس، وأن تستخف بأحكامهم شيء، على الجانب هُناك ألمٌ دائم ينمو في قلوب الذين يحبونك ويريدون لك الخير، وعندما شاءت الأقدار أن أنتبه لذلك متأخرا بدأت معركتي الضروس في استعادة اعتباري الطبيعي [العادي] والذي أبسط ما له هو ردع الغرباء عن إيذائي، وأكثر ما فيه تعقيدا هو حفاظي على مكانةٍ اجتماعية جيدة تسمح لي أن أكمل مساري في الحياة، مهنيا، وثقافيا ككاتب له حضورٌ معقولٌ في محيطِه الاجتماعي. حُلَّت العقدةُ التي جئتُ إليه من أجلها، وانتقلت من حالة الشرح المذعور لما أشعر به، إلى تأكيد أسبابها.

 

إنسانٌ مذعورٌ عانى من صدمات. لديه إرثٌ من تأنيب الضمير، وتشاء رحمة الله أن يفلت من دوامة عوالم الشد والجذب، والتدوين السياسي، والصراعات، وما يفعله بنفسه في لحظات الهشاشة، واستجابته العالية لمن يجيد التلاعب به، إلى ما يشبه النجم الاجتماعي، أو كما يسمى الآن [المشهور] الذي يستمدُّ طاقةً ومحبةً كبيرة من الآخرين الذين يتمنون له الخير، بدءا من دائرة العائلة، ثم دائرة الأصدقاء، وأخيرا إلى دائرة المحب من بعيد أو الصديق الذي يشعرُ أنه صديق قديم حتى وإن لم تتح الحياة فرصة لقاء. يجد هذا الإنسان المذعور نفسه بعد ظرفٍ مسح تاريخ مخالفاته القانونية في وضعٍ [عادي] للغاية يسمح له بخوض آمال الحياة بدون منغصات كبيرة تتعلق بصدام مع قانون، أو حكومة، ويجد هذا المذعور نفسه في حالةٍ من الصفاء الفكري سمحت له بالكتابة، وبالمشاركات الاجتماعية مما أدى في نهاية المطاف إلى حالةٍ من النجوميةٍ المعقولة، فماذا حدث له؟ لم يشعر بالسعادة، بل أصبح يغلي بالشعور بالعنف، وخيالات أن يقتل أحدا أو أن ينتحر في نهاية معركةٍ طويلة من الخسارات هي التي سيطرت عليه؟ ما هو المنطق الذي يجعله يفعل ذلك؟

هُنا جاء المُعالج الذي شرح بكل هدوء:

الإنسان غير المبالي أصبح يبالي. ولأنه لم يتعود على التطبيع معه حياةٍ عادية، ولم يتوقف عن الشعور بمكتسباته كوَّن حسا دفاعيا مليئا بالعنف. الصدمات السابقة تكفلت بجعله يتوقع الأسوأ دائما، والبهجة التي يعيشها مرتبطة دائما باحتياجه للتأكيدات، هو ليس مدمن مخدرات، ليس إنسانا يبحث عن كراهية الناس له، يحمي هشاشته من هؤلاء الذين يجيدون استغلالها، ويرفض أن يكون أداةً. الذي يحدث أنَّك تحبُّ التغييرات التي في حياتك، ولأنها أصبحت ذات قيمة لديك، صرتَ تبني دفاعاتٍ طويلة وعريضة وتضع خططا جانبيا لكل شيء يمكن أن يسوء. هذا انعكاس لا مبالاتك السابقة، وتحولك إلى إنسان متمسكٍ بحياتك وبفكرة الحب، وأن تسعى لكي تكون خيّرا وفق تعريفك. الذي تحتاج إليه لكي تعرف هو تحديد قيمك الحقيقية في هذه الحياة! هل تعرف ما هي القيم التي تؤمن بها في حياتك الآن!

عليك اللعنة أيها الألماني الداهية! هل هذا ما يفعله العلاج بالتوعية الإدراكية؟ حولت حالة الذعر تلك إلى خطة! وإلى طريقة واضحة للفهم! جعلتها قابلة للحل! كلامه صحيح جدا. لدي حياة تستحق الحفاظ عليها، أتمسك بها. بعد أن كانت مخاوفي تتعلق بحساسيتي المفرطة تجاه كلام الغرباء، أصبحت اليوم متعلقة بحياةٍ أريد حمايتها، وبشعور بالإنجاز، وبشعور بالنجاح، وبشعور باحتمالات المزيدِ منه. وكأنني أقول: العدو الذي يريد إيذائي سوف يغلي أكثر وأكثر، يجب أن أكون جاهزا لفعل أي شيء لكيلا يستمتع بأي انتقامٍ إن نجحَ. التفكير خارج العقلانية والمنطقية يقول ضمنيا: بما إنك صرتَ في وضع يسمح لك بالشعور بالسعادة، تلقائيا توقعت أن ذلك سوف يجذب عدوك إلى حياتِك، شعورك بالريبة والاستهداف جعل هذه حقيقة حتمية الحدوث، ولأنك آمنت بهذه الفكرة المغرقة في الارتياب كونت ردة فعل وبدأت تدريب نفسك عليها، هذا ما يحدث لك من قبل، تتفاقم الريبات، وعندما تحدثُ لحظة الاندفاع فأنت تنفذ كل تلك الخطط التي كانت في عقلك من قبل، هُنا خطورة التفكير غير المنطقي، وأنت جاهز للاندفاع إن فقدت سيطرتك على عقلك ومزاجك. ليس ثنائي القطب، هو الذي يجعلك تفعل ما تفعله، إنه هذا التفكير الذي تتجاهل تحليله مع محلل يفهم عملَه. انتهت الجلسة وأنا أشعر بالهدوء، على الأقل أدركت السبب، وعلمت ضمنيا الظروف التي قد تقود لهذه النهاية، لم يتوقف شعوري الداخلي العميق بالعنف، لكنه على الأقل تحولت من خيالاتٍ لتربصي بخصمٍ أذاني، إلى فهمٍ لماذا. العائلة حاضرة في ذهني، فكرة أنهم فخورون بي وأنني أجلب لهم السعادة والشعور بالاعتزاز فكرة لا أريد أن أفقدها. وبحجم الخسارة، يكون الانتقام. لقد وصلتُ إلى السبب، وبدأت خطة علاج هذه المشاعرُ المضطربة.

يخوضُ المستشار النفسي [والذي أرفض بتسميته بالمعالج] معي في خطواتٍ الاستقرار الشائعة. تمرين الحضور الذهني، تمرين [التأريض] وبعض الرسوم البيانية التي توضح لي لماذا صرتُ مدمن عملٍ لا يكل ولا يمل ألاحق نداء لم يعد غامضا في النفس. ثمَّ جاء الواجب المنزلي، هل تعرف ما هي قيمك في الحياة؟ ولا يخلو الأمر من إخراج هذا مما يندرج تحت تصنيف الفلسفة إلى ذلك الذي ينتمي إلى الحالة اللحظية. ما هي القيم التي تؤمن بها في هذا الوضع الذي فيه.

 

بدأت القيم المعدلة التي صرت أؤمن بها، والتي عدت للإيمان بها بالتشكل في ذهني. هذا الألماني اللعين على صواب! هذا السؤال يجب أن أجيب عليه!

أوَّل إجابة تطرأ على ذهني هي قيمة [الاستقلالية]. أريد أن أكون إنسانا مستقلاً لا يصلُ الحال بالظروف الخارجية إلى تدخل في أبسط حرياتي. أولها أنني لا أريد دخول السجن بسبب هجمةٍ على السلطة، أو على الدين. هذه قيمة جديدة دخلت حياتي بعد أن جربت حياة الإنسان الذي يعيش متعايشاً مع ظروف القانون الاجتماعي في بلادٍ ما، والقانون العرفي أيضا. إن كنتُ ابتليت بشربِ الخمر، فهل سأفعل ذلك علنا في بث علني؟ أم سأفعل كما يفعل الجميع، يحمل خطيئته بعيدا عن الغرباء ويتأقلم؟ إن كنت [أقلُّ أدبي] في الكلام؟ فهل أفعل ذلك بما يهدد استقلالي؟ فكرتي عن الحياة بوضوح [وتعرٍ] تامٍّ وكأنني بلا حياةٍ خاصَّة بي تغيرت. أن أعرض نفسي في سوق النمائم، والفضائح، وأفتح بابا للشامتين أو للمغرضين وأن أتخذ موقفا من العناد يقول: لا أعبأ بكلامِكم لم يعد حاضرا في ذهني. يبدو أن هذه القيمة أصبحت رئيسية في حياتي، ومن هنا تبدأ أهمية تفكيك مجادلات المبغضين الذين يتكلمون عن [الصدق] وهم يتكلمون فعليا عن [الفضيحة] والذين يجادلون باسم الوضوح وهم يحرضون على حياةِ الذات المُشاعة لمن هبَّ ودبَّ، حياة تحت وطأة لسان الغرباء، وفي بلادٍ مثل عُمان، قليلة السكان، محافظة، يهتم المجتمع فيها بشكلك الخارجي كثيرا، هذه القيمة تداخلت مع القيم الأخرى، لكنها لا تخلو من البروز. أريد أن أكون مستقلا، وأفضلُ أن أتجنبَ الصدام، حفاظا على ما أؤمن به، أو على الأقل على تلك الحرية السلوكية التي تضمن لي أن أتفوه بالحماقات في محيطٍ قليل من الأصدقاء الذين لا يحولونني إلى مزرعة من النمائم يغذون بها مشاعر الآخرين [مستحقةً كانت أم غير مستحقة] والتي يحلو لها احتقاري، أو ببساطة حسدي على ما صرتُ إليه من استقرار، واستقلال. أي هديةٍ للمبغضِ أن تكون مادة دسمةً، وكيس ملاكمة، وإنساناً يستطيع تعميق الكراهية تجاهه نتيجة حالة الهشاشة التي تمرُّ بها. نعم، قيمة الاستقلالية قيمة رئيسية أؤمن بها، ويبدو أن دفاعي عنها قد وصل إلى التفكير في العنف، والانتحار، والمعارك التي أجد فيها النهاية.

قيمةٌ أخرى حاضرةٌ في ذهني، أحاول الإمساكَ بها وتعزيزها داخليا وهي قيمة [النزاهة]. أريدُ أن أكونَ كاتبا نزيها، لا يكتب بإملاء من الآخرين. ويبدو لي أن هذا هو السبب الذي يجعلني أتجنب الاصطفاف تحت أي ظرف ممكن، سواء مع السلطة، أو ضدها، أو مع الدين، أو ضده، أو مع الثقافة، أو ضدها. القيمة الأولى [الاستقلالية] تتداخل مع هذه القيمة التي أريد تكوينها. سأفترض مثلا أنني عدت لعادة سيئة مثل شرب الخمر، هل سأكتب كما كنت أفعلُ عن مقتي لها؟ الحل هو أن أستر على نفسي، وأتمنى بيني وبين نفسي أن أنجو منها، وهذا ما يمهد للقيمة الثالثة، قيمة الاستقلالية تجعلني أغلق الباب على تدخل الغرباء الذين لا حق لهم، ولا خير منهم في سلوكي، وقيمة النزاهة تجعلني على الأقل إن ابتلاني الله بالعودة للخمر، ألا أكتب أنني أعيش بدونها، أو أتباهى بأنني أحد الناجين منها، الحال نفسه مع إدمان المخدرات، ما دمت بعيدا عن الإدمان، من النزاهة أن أبقى دائما في حالةِ تذكير لنفسي ولغيري أن هذا شيء حسن، نعم، هذه القيمة حاضرة في ذهني، وتتكون كل يوم لتحيط بأشياء كثيرة أحارب فيها مغرياتٍ مثل انتهاز علاقتي الحسنة بالسلطة لكي أعود إلى اللعب في مساحات الرأي العام، سواء لدفع الشر عني، أو لكسب المنافع.


قيمةٌ أخرى حاضرة، وهي قيمة التأقلم. أبسطها تعايشي مع حدود الحياة في عمان. القانون، والمجتمع، والاشتراطات العرفية التي قد تجعلك عدوا للمجتمع، أو هدفا له. لذلك ربما أتجنب الكتابة عن أشياء كثيرة، كصراع الاستقطاب الثقافي والديني. أو قضية مثل النسويات. توقفت عن الكتابة في هذه المواضيع ضمن تجليات حضوري في منصات التواصل الاجتماعي، وأكتفي بالكتابة عنها ضمن محيط ثقافي، أو تحليلي، أو نقدي، أو فكري، كل شيء خارجَ فتح باب يهدد استقلالي. القيمة الثانية [النزاهة] حاضرة عندما أحاول جاهدا أن أقول رأيي الصادق الحقيقي، والذي إن فشلتُ في قوله خوفا من ضياع تأقلمي في الحياة أفضل التحليل وبيان وجهات نظر كل جانب، كتعويض عن تنازلي عن قوله فقط لأتجنب الصدام، ومعركة لا داعي لها مليئة بالنفوس المشحونة، والحساسية العالية، نعم هذه قيمة حاضرة بشدة.

قيمة التفرد حاضرة بقوّة. إصراري على الحفاظ على مكانةٍ معنوية تتعلق بالإبداع. الكتابة، تعلم الموسيقى. وتتداخل مع قيمةٍ أخرى وهي قيمة النمو الشخصي. كلاهما يعملان في جانبٍ داخلي [جوَّانيٍّ]، العودة للكتابة، ونيل الاعتراف العائلي، والاجتماعي، وبعد كل ذلك الصلة الدائمة بيني وبين القارئ الذي لسنواتٍ أتعاملُ معه بخجلٍ تام نتيجة توالي سنوات الاضطراب الذي حولتني من كاتبٍ إلى مهذونٍ. لعل هذا الذي أقنعني في نهاية المطاف بالتوقف عن هذا اللقب العبثي [المهذون] والعودة للكتابة، بما في ذلك تلك الساخرة التي يجب أن تحمل قيمة بها عزّة نفسٍ وكرامة تمنع تافها أو لئيما من إيجاد ثغرة ليستهزئ بي كما يفعلون عادةً. لسنواتٍ طويلةٍ كنت أعلم أن الذي يناديني [المهذون] هو إنسانٌ يجب أن أحذر منه، كان يجب أن أحسم قيمتي الداخلية بيني وبين نفسي قبل أن أتوقف عن استخدام هذا [الفلتر/ المرشح] لحماية نفسي من نرجسية الآخرين التي يحلو لها اللعب على هذه المساحات. هناك قيم مثل الكرم والشجاعة حاضرة بشدة لدي، أحيط بها برؤية نقدية تحمي القيمة الأولى الرئيسية [الاستقلالية]، التعرض لاستغلالٍ من صديق أو شبه صديق كل ما يهدف له هو سحب المال من يدي، أو التعرض إلى جبانٍ يريدني أن أحارب في معركته نيابة عنه، قيم حاضرة في مساحتها مثل قيمة العطاء أو فعل الخير، ولعلها تحت الصيانة والتفنيد بسبب اختلاطِ شخصيتي المنساقة أحيانا تحت ضغط الآخرين مع شخصية الشاعر الهائجة والتي لا تفرق أحيانا بين الشجاعة، أو التعرض لضغط الأقران، وقيمة الكرم والاستغلال. يبدو أن القيمة العائلية هي التي أعادت هذا التمييز لدي، الكرم مع العائلة، ومساعدة الوالدة، والوقوف معهم، والشجاعةُ في حماية عائلتي من أي ظرف يمكن أن يؤثر عليها، بما في ذلك شجاعة الاعتراف بالخطأ، أو الصدق، مع قيمة أخرى متعلقة بالاستقلالية وهي رفضي أن يحاسبني على خطأ من لم يقع هذا الخطأ عليه. لذلك أنادي كل من أسأت له أنني مستعد للتعويض، أو للاعتذار، لكنني لا أتقبل أن ينتقم، لذلك كما يبدو أفكر بالعنف، والقتل، والانتحار في خيالاتي التي قام هذا المعالج النفسي اللعين بتقديم الحلول الذهبية لها. اشعر براحة كبيرة الآن بعد أن رأيت كل هذا يتحول إلى نص مكتوب يسمح لي في وقت لاحق بالمقارنة. قيمة الامتنان، والتي تتداخل مع قيمة العائلة، وقيمة الشعور بالنعمة، مع قيمةِ الاستمرارية والمرتبطة بالتفرد، وتطوير الذات. كم أنت لعين أيها الألماني، كل هذا كان حاضرا في ذهنك؟ يبدو أن علم النفس أكثر قدرة على مساعدة المضطربين مما كنت أتوقع! عليك اللعنة! أشعر براحة هائلة بعد أن سردت كل ذلك، كنتُ عادةً أنسب الفضل للكتابة، اليوم أنسب الفضل لك، أرجو أن ترجمة جوجل سوف تسمح لك أن تفهم كل هذا المكتوب هُنا، وأظن أنها ستفعل ما دمت أكتب اللهجة البيضاء وخارج الزخرفة الشعرية التي تجعل جوجل عاجزا عن فهم ما نقوله نحن العرب. يبدو أن القيم المرتبطة بالداخل لدي هي التي تجعلني خارجياً أفعل أشياء خارج قدرتي على توصيفها. التفكير بمنظور القيمة فكرة جيدة للغاية أيها الألماني اللعين.

ذعري وهلعي له أسبابه الوجيهة. وبغض النظر عن نوعية حياتي، كنت كاتبا، أم لم أكن، كنت نجما اجتماعيا يحبه الناس أم لم أكن، هي قيمة إنصاف حقي كفرد، حقي في الحياة. أظن أن أسئلة القيمة النفسية التي وضعت بعض نقاطها على حروفها الآن هي التي تتفاعل في النهاية لتصنع لي ذلك الضغط النفسي الشديد، حيث لا أعرف أي قيمة تتداخل مع الأخرى، وأي آمالٍ تتداخل مع القيم التي أؤمن بها، وأي حياةٍ تتداخل مع الآخرين، كل هذا التقاطع بين هذه المفاهيم كان يحتاج لجلسة الكتابة هذه كيف أفهم. شكرا أيها الألماني اللعين، لقد ساعدتني بصورة مذهلة، فشكرا لك على نقطةٍ لم أكن أعرف في أي حرف كانت يجب أن توضع.

 

 

ماريو