بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 9 مارس 2023

حضور ذهني: نقطة الآن والمكان!

 

 

 

أبدو من الخارجِ مرحاً، ولا يخفى عن عينِ المنتبه أنني إنساني أعيش حالةً مكثفة من القلق، ثمَّة شيء يدفعني لفعل ما أفعله، والمبصرُ يعرفُ أنَّ بركاناً متكامل الأركان يضخُّ حِمَمَه في عروقي. هكذا أبدو من الخارجِ، إنسانا متلاطم الوجدان، نشطٌ ومليء بالطاقة وفي الوقت نفسه ثمَّة غضبٌ شديد مدَّخرٌ جاهز للانطلاق في الوقتِ المناسب. لم تكن حياتي سهلةً، وبغض النظر عن الأسباب، وإن كنت أستحق ذلك، أم لا أستحق، وإن كنت أنا السبب كليا، أم كان السبب خارج فعل أناملي كليا، أو كما هو المنطقُ أن استحقاقي لحياتي منطقة رمادية، كأي إنسان آخر، أخطأ، وأصاب، فعل خيرا، وفعل شراً، به من حسن الخصال وسوئها حاله حال أي شخص آخر، الحُكم بهذا الترجيح القاطع بين الأبيض والأسود طبيعة نقدية يتشابه فيها المحب والمبغض على حد السواء.

أكملُ العام الثالثِ منذ عودتي لعُمان. من لاجئٍ مليء بالغضب والحسرةِ والندم إلى لحظة الآن والمكان هذه! أتتبع ظروفَ هذه العودةِ بتقصٍ دقيقٍ لما هو داخلي، وبانتباه أقل لما هو خارجي. وبقدر ما أبدو هادئا لذلك المتأمل اللامبالي فالحقيقة أنني لست هادئا. تعرضت لما يكفي من الآلام في هذه الحياة، هذا يكفي لكي أفقد طمأنينةَ سطر بوب مارلي الشهير [كل شيء سيكون بخير]، كانت أياما جميلةً عندما هذا كانَ معتقدي اللاعقلاني الداخلي الذي أسير على نهجه. بعدَ العفو السامي، قضيتُ وقتاً لا بأس به خائفاً أترقبُ، ومر العام، والعامان وكل المؤشرات تقول لي بوضوح تام: الحكومة لا تريد بك الشر! هل تريد بي الخير! هل تريد أن تضعني ضمن خططها مع الرأي العام؟ هل لديها نوايا! كل المؤشرات تقول: هو وشأنه، وإن تعدى خطوط القانون فإن القانون له بالمرصاد له ولغيره، وهذا ما يطمئنني عندما أتعامل مع هذه المنظومات التي نصها النظري كله غير شخصي، هل ينجو الإنسان من بطشِ الشخصنة في التعامل معه؟ طبعا لا، هذا هو الاحتمال الدائم من قبل الحياة ونفوس البشر التي تحاول تطبيق أسماء العقد الاجتماعي، مثل القانون، والسلطة، بما في ذلك من أدوات معقدة لإنفاذه.

عامٌ كان كافيا لأعرف أن الحكومة لم تعد تريد بي شرَّا، وعامٌ آخر كان كافيا لأفهم أنَّها لا تريد مني أي شيء، أن تكون كائنا اجتماعياً يعني أن تعيش بعيدا عن تعقيدات الغابة السياسية، والتي هي في كل مكانٍ غابةٌ مليئة بالصراع والتنافس، كنتُ لاعباً في هذه الساحة ذات يوم وخرجت منها بهزائم لا تعد ولا تحصى، أبرزها خسارة الذات، وأغلاها ثمنا الخسارة الاجتماعية التي أفرزت في النهاية مسخاً انتقامياً جاهزا للفتك بكل من يقترب منه، المسخ نفسه الذي تزيَّن الآن بملابس جميلة، ويحاول جاهدا، وأظن بصدق نية، أن يعوَّض بعض رزاياه بفعل بعض الأشياء الجيدة، أظنُّ ذلك عن نفسي وأتمنى ألا أكون مخطئا.

العامُ الثاني بعد عودتي لعُمان كان عامَ الحسمِ فيما يخصُّ خوفي مما أسميه [الغدرة]، هو خوف مستحق وفي محله وفي مكانه، هل هو منطقي؟ كل شيء في [الما حول] يقول لي هو غير منطقي، مع ذلك، من سمات أي نفسٍ تعرضت لصدمات مهولة أن تبقى دائما متربصة بالأسوأ، تترقب حدوثه، أستطيع أن أقول أن عامين كانا كافيين تماما لكي أبدأ الاطمئنان لهذا الأمر، الحكومة لا تريد بي شراً، لم أعد لاعباً متناقضا في ساحة الرأي العُماني، لا أمدحُ، لا أذمُّ وكما يقولون: كاف خيري وشري، وملتزم بحياةٍ في سياقٍ اجتماعي لا أحيد عنه.

الذي عاش حياةً كما عشتُ من الصعب أن يتخلى عن الدروع والأسلحة، وهذ المرَّة ليست بحُكمِ وجود معركة تتربص به، فلدي أعداءٌ قادرون وأقوياء، بعضهم مسلحٌ بالحقدِ الغاشم، وقليلٌ منهم لا يكلُّ ولا يملُّ ويغلي غضبا في كل لحظةٍ أبتعدُ فيها عن حلم اليقظة الذي حققته له، عندما قلتُ بكل جنون [بيدي لا بيدك يا عمر] وبدأت رحلتي الطويلة في تحطيم كل ما يتعلق بمعاوية في مجتمعِه، كم هو مؤسف أن تنهار تحت وطأة الضغط حتى تحقق أنت بنفسك، ودفعةً واحدةً ما يتمناه المبغض لك. وقتها كان كل ذلك مبرراً ومنطقيا، البحث عن الخلاص دفعة واحدة، والتخلي الكلي عن أي حضور اجتماعي، حتى ذلك الذي يشمل حقوقي العادية، والمنطقية، والقانونية والتي تشمل حقي في عدم الاعتداء عليَّ لفظا، أو إهانتي، ناهيك عن الحقوق الاجتماعية المتعارف عليها، مثل حقي في ألا أهان أو أتعرض للاستهزاء من قبل السفهاء، والغرباء، وهؤلاء الذين يتغذون من مآسي الآخرين ولا يعرفون القوَّة سوى على هؤلاء الذين أثقلتهم ضربات الحياة حتى طرحتهم في التراب والطين.

هذه هي نهاية كل الأفكار اللاعقلانية التي تتحول في نهاية المطاف إلى تصرفاتٍ اجتماعية، وفي عمان، وبالذات في عُمان، وبالتحديد، والتخصيص، والإجمال، والتعميم، والتنميط، بالذات في عُمان مثل هذه الحالة الذهنية، وما تتحول إليه من سلوك، يتحول كل شيء إلى مأساة تمشي على قدمين، وهذا ما حدثَ، كاتبٌ لمع نجمه لبعض الوقت تحوَّل إلى مدمن مخدرات زائغ العينين، متربصا من كل شيء، ومن هبَّ، ودبَّ، ومن له حق، ومن ليس له حق قادر على الإساءة له بكل سهولة. وكأنني خلقتُ لتحقيق أمنيات المبغضين تواصلت رحلتي الطويلة في الانتقام مع ذاتي، ووقتها أجمعُ رصيد الكراهية الذي أجهزه للانتقام، ربما كنت أبحث عن المظلومية بكل جنون لكي أتحول في نهاية المطاف مسخاً قادرا على إيذاء إنسان، وفعلا حدث ذلك، وأدركت أنني لستُ طيباً، وغفوراً كما كنت أظنُّ في نفسي. دائرةٌ مريرةٌ من التراكم أصبحت تُمارس بوعيٍ مرضي مسبق، قم بإيذائي، وواصل ذلك، ووقتها لا ضمير يوقفني عن إيذائك بلا توقف، هو نصابٌ من الجنون عشتُه بما يكفي لأجمع حزمة من الأعداء سنتبادل التربص إلى نهاية العُمر، ولا أحد يهربُ من عواقبِ حياةٍ مليئة بالخصومات.

أبدو مرحاً وسعيداً بصورةٍ غير منطقية. لعل نعمة ثنائية القطب تلعب في صالحي بعد الشيء بعد أن استقرت ظروف الحياة حولي، فالاكتئاب أصبح يورث الحكمة والعزلة بعد أن كان يورث الاعترافات المخزية بما فعلتُ وبما لم أفعل، والهوس الطفيف أصبح يورث لحظات الحضور الاجتماعي، وتلك الكاريزما التي يحسبها البعض من خصالِي الأصيلة، طاقة ثنائي القطب التي تتسرب بسهولة إلى الآخرين رافعةً من وجدانِهم، ومانحةً إياهم شعورا بالبهجة الهرمونية التي تبثها النواقل العصبية في أدمغة ثنائيي القطب. العبور من وإلى تلك المأساة أخذ خمس سنوات، فهل الظاهر هو الحقيقة؟ قطعا لا. الظاهر هو جزء منها، أما آثار تلك السنين من الريبة والخصومات فقد تركت أثرها، لا أتوقف عن بناء الدفاعات، وفي أبسط المواقف لا أرعوي عن الدخول في عدائية من التحذير المتتالي، لم أصنع خصما جديدا بلا سبب، ولم أصنع عدواً جديدا، ولم أسمح لصداقة أن تنهارَ حدَّ تحولها إلى معركة. هل أنا جاهز لذلك؟ للأسف الشديد نعم، جاهزٌ لرمي كل شيء وراء ظهري من أجل انتقامٍ من ندٍّ يظنُّ أنَّ الكراهية لم تعد في دمي. كم هو مؤسف أن يعيش إنسانٌ كل هذه النعم وداخله اللاعقلاني مهيأ للأذى والتدمير لهذا الحدث. المحزنُ حقاً أن تكون واضحاً مع فهمك لذاتك، وتقوله للآخرين ومع ذلك يأتي بعض الأغبياء للمجازفة باختبار تحول ذلك لحقيقة، وقتَها، طريق اللاعودة جاهز للذهاب إلى نهاية الشر.

أعيش دقائق الضوءِ وما يأتي معها من أعباء وتبعات. حياةُ النجم الاجتماعي هذه التي أقومُ بها كوظيفةٍ اضطرارية، يجدر بي الاستمتاع بها، والعيش في نشوتها. هل أفعل ذلك؟ قطعا لا. أحيطُ نفسي بأصدقائي الذين أتعلقُ بهم، ولا أجازف بالدخول في صداقات جديدة إلا في أضيق الظروف، مع أصدقاء أصدقائي، بعدَ تأملٍ واستقصاءٍ، بل وأحيانا اختبارات لا داعي لها، فقط لأطمئن، هذه الطمأنينة التي تفوق قيمة السعادة لدي. محزنٌ أن تصل لهذا الحد من الخوف، أن تفسد على نفسك الشعور باللحظة بسبب كل ما دفعته من ثمن بعد تصديقها.

يغضبُ وضعي الجديد البعض، ولا أجد غضاضةً، ولا أشعر بالانزعاج والأذى عندما يكون هذا الغضب ممن أسأت لهم يوما ما. تدهشني رحمة الله الذي يبثُّ الغفران في قلوبٍ بعضها جرحتُه بشدة، ويدهشني ذكاء إبليس عندما أجدُ غريباً لا علاقة له من قريب ولا من بعيدٍ بخطايا لم تكن في حقه أو حق من يحب وهو يتفنن في الاحتقان تجاهي. لكل من أسأتُ له يوما ما نصابٌ ما من الإيذاء، إن أراد حقُّه فلا أنكره، وأؤديه، وإن أراد اعتذاراً ولم يكن يدين لي بمثله كان له ذلك، أمَّا من أراد انتقاماً، فكأنني أبحث عن ذلك اليوم الذي أعودُ فيه إلى شرّي الداخلي، واستعدادي للتطاولُ في الأذى، كم هو محزن أن يبهجك اقتراب أحدهم لك بسكين، ربما لأنك ادخرت ما يكفي من السيوف والمقاصل جاهزاً لاختبارها على خصم أرعن! هذا محزن! محزن فحسب!

لقد انحصرت حياتي في التفكير في كيفية التصرف تجاه ظروف الحياة. أما كيف أشعر! فكل ما أفعله هو التجاوز، تجاوز الشعور بالأسى، تجاوز الشعور بالسعادة. تحولت حياتي إلى حالةٍ عمليةٍ موغلةٍ في السببية، وكأن الذي يعيش هذه الأحداث هو شخصٌ آخر. شخصٌ آخر بالمصادفة أعيش داخل عقله، وأتولى اتخاذ قراراته نيابة عنه. ما زلت غبياً، لساني تسبقني، ولا أخلو من صفات الهبالةِ والتغابي المستمر. أصدقائي يعرفون ذلك عني، وعائلتي تعرف مشاكلي فلماذا أعبأ بالغرباء؟ بعد سنواتٍ من التأمل والعلاج الداخلي قطعت الشوط الأخير في استعادة الرأس الصماء، عندما يفقد الكلام قيمته، ويبقى كل شيء محصورا في التصرف المناسبِ تجاه الاعتداء غير المبرر. قراءة هذا النص تكفي لكي يوضح التفكير اللاعقلاني الضمني الذي يحركني خارج وعيي، لا إنسان يسيطر كليا على وعيه ولا وعيه، وهذه حقيقة مثبتة علميا، كل ما أستطيع هو الانتباه، الانتباه لا أكثر إلى هذه الألاعيب التي يغدقها الذهنُ على طين ولحم يسكنها بقدر ما تسكنه.

لن أعتذرَ لأحدٍ أنني أحاول الحياة. لقد انتقلت حياتي من القلق تجاه ردات فعل السلطة تجاهي، أو الخوف من السجون، أو التحقيقي إلى قلق عاديٍّ بمعنى الكلمة، المثير للسخرية في هذه الحياة أن تجنب الاحتكاك بالسلطة أسهلُ بكثير من تجنبِ الخصومات الاجتماعية. كلا الأمرين مؤذٍ، وأكثرهما تأثيرا هو ذلك الذي يبدأ بالتربص بمحيطك العائلي، أو بالأصدقاء. بينما يغرقُ البعضُ في التأويل زيادة عن اللازم، أغرقُ أنا في ترميم حالتي الاجتماعية، وفي ذلك الشعور الجميل الذي أصادفه من عائلتي، ولا سيما صغارها الذين صرت في هذه الأربعين من العُمر أخشى كل الخشية أن يكون خالَهم مصدر عارٍ، أو خجلٍ، أو تعيير لهم. بينما يحلل البعضُ زيادة عن اللازم تصرفاتي، وما أنوي عليه، وهذا يربطني بالسلطة، وذلك يربطني بأحقاده الداخلي، وذلك يعاملني بحسن الظن الفائق، وذاك يقرؤني بسوء الظن الفائق، كل ما أفكر به هو هذه الحياة الاجتماعية التي أريدها أن تكون هادئة قدر الإمكان، ومحمية إلى أقصى حدٍّ ممكن. أبدو هادئا للغاية، ومرحا، وقد أبدو جميلا بعض الشيء، وقد أبدو خيّرا، الحقيقة هي أن كل ذلك هي لإنسان كان يائسا، وذميما، وعاش ما يكفي من القبح لكي لا يجعله هذا الجمل يغفل عن معركةٍ أخيرة نهايتها الموت، قد تفرضُ نفسها عليه، وقد يؤجلها الله برحمته فينجو من خسارةِ كل شيء فقط لأنَّ عدوا لئيما قد كفَّ الله شرَّه وشغله بمن يشبهه. رغم كل هذا الجمال والنعمة التي أسأل الله أن يستقر في قلبها شكرُها وأداء جميلها، هذا الإنسان الذي يكتب هذا الكلام عاشَ حياةً أقبحَ من أن يغفل بسبب هذا الجَمال، عن كل القبح الذي نفسه، وعن كل القبح الذي في العام وفي نفوس البشر.

كل ما أحلمُ به في هذه الحياة، هي حياة جميلة، غير مسيّسة، لا أضطر فيها إلى الرد على قبح نفوس الغرباء بقبح ما في نفسي، إلى حياةٍ أغادر فيها كل الصداقات التي آذتني، وأغادر فيها كل الظروف التي تجعلني مؤذيا. لن أعتذر لأحد لأنني أحلم بهذه الحياة، ولن أغفر لأحد يحاولُ أن يجعلها ساحة صراع فقط لأنه خسر دميةً كان يمرّن ضغائنه عليها. مختصر كل شيء قالَه شاعرٌ يعلم ماهية الحياة: "فإمَّا حياةٌ تسرُّ الصديق، وإمَّا ممات يغيظ العدا"

 

معاوية