عزيزي القارئ، إن كُنتَ من معارفي في هذه الحياة، أو أصدقائي، أو أنصاف معارفي،
أو أنصاف أصدقائي، أو عائلتي القريبة، أو عائلتي القريبة، أو كنت إنساناً تعرفُ
أنني سمعتُ عنه، أو إنساناً التقيت به لمرَّة واحدةٍ في مناسبة اجتماعية، أرجو منك
كل الرجاء ألا تجعلَ ما أكتبُه في هذه الورقة البيضاء متعلقاً بك. أرجو ألا تتبعَ
مثالاً من الأمثلة، لتسقطه على نفسك، أو على غيرك، أطلبُ منك أن تفعل عكس ذلك، أن
تقرأ كل هذا، وأن تبحث أنتَ في داخلِك عن تلاعبِك بالآخرين، وأن تعترفَ بينك وبين
نفسك عن كل الذي تفعلُه لتحافظ على امتيازٍ ما، أو لتحقق خطةً ما، أو لتصنع حالةً
معينة تسمحُ لك باستثناء معيَّن، فقط لأنَّك تتلاعبُ، لأنك إنسانٌ متلاعبٌ، قد لا
تكون مُخادعا، أو سارقا، أو كاذباً، أو مؤذيا، إن كانت كل النماذج التي ستُسرد،
تتحدثُ عنك، فأنت إنسانٌ متلاعبٌ بالآخرين، ولعلك تستحق أن تقرأ أنك مكشوفٍ إلى
مدى كبيرٍ، وإنَّه موضوع وقت قبل أن يحاصرك القلق، وتبدأ خلايا الشك المناعية في
أذهان الآخرين بالانتباه إلى أساليبك التي ستلحقُ بها كلمة [مكشوفة] وقد تقرر
مواصلة الطريق إلى حيل جديدة، أو ربما، كما آمل، ستغير مقاربتك وتختار طريقا أكثر
وضوحاً، إن لم يكن طريق الصدق والصفاء مع البشر، فهو طريق الوضوح، أن تقول ما
لديك، وما تريد، وما لا تريد، وما تمتنع عن فعله أو قوله بوضوح للطرف الآخر.
عزيزي المُتلاعب: دعنا
أولاً نعرِّف التلاعب المقصود في الأمثلة القادمة، لكي نهربَ من آفةِ المنهجِ،
ولكيلا يخرجَ النص عن شعريةِ الراصد الفرد ويذهبُ إلى قوانين المنهجِ المتشابكة
بكل ما فيها من حسمٍ قاطع، واتفاق تراكمي، وتراتب في المكانات العلمية، وتضاربٌ في
التعريفات بين الحقول. أن تكون متلاعباً، يعني أن تستغلَ فهمَك للآخرين لتحقيق بعض
مآربك المعنوية، وبالتالي بعد تحقيق تلك المآرب، تستحوذ على مساحاتٍ من التنازلات
لدى الآخرين تحت إدراكٍ مفادُه رغبتهم في ذلك من عند أنفسهم. هذا ما تفعله أنت
عزيزي المتلاعب، فأنت هنا لست كالمبتز عاطفيا، الذي يحبُّ ويتفاعل مع وضعٍ، أو
حالةٍ، أو فعلٍ، أو عطاءٍ معيَّن، ولست كالنرجسية السام فاقد التعاطف والذي يجيد
فنَّ التلاعب فقط ما دامَ الآخر تحت سيطرته. المُتلاعبُ ليس خسيساً مثل الكاذبِ
الذي يُكشف بسهولة، والذي يلقي الوعود بلا توقف، والذي يعتمد على صدمة التصديق
الأوَّل وبعدها يعلمُ الجميع أنَّه لا يؤتمن جانبه، ولا يفي بوعد، ولديه ادعاءاته
الكثيرة، والمتلاعب ليس كالمبتز الذي يستخدم أدوات الإساءة المعنوية، ويستخدم
تقنيات [B.F.Skinner] التي تعمل مع الكلاب والقطط لكي يؤنسن
حيوانيته ويُسقط ذلك في تعامله مع الناس. المُتلاعب إنسانٌ يتعلَّم فنَّ التأثير
على الآخرين، ويقنعهم بشكلٍ ما أو بآخرٍ أنَّ ما يفعلونه [لأجله] هو في الحقيقة
شيء يفعلونه لأجل أنفسهم، يقنعهم بتحمِّل سلوكيات يقوم بها، سلوكيات تزعجهم صانعاً
لهم وهماً مؤثرا، هو النبل، أو الكرم، يعزف على الوتر المناسب، ويضغط على الزر
المناسب، فهو ليس غضوباً، لا يهدد، لا يتوعد، ناعم الملمس، لا يريد بالبشر سوءاً،
أو شرَّا، وقد يكون في حالاتٍ كثيرة صادقا مع نفسِه، لا يعلمُ أنَّه يتلاعب
بالآخرين، ويظنُّ بنفسه أنَّه خيِّر، وطيب، ولا يريد إيذاء أحد، وقد لا تحدث اللحظة
المناسبةُ في حياتِه، أو حياة هؤلاء الذين قام باستغلالهم، والتلاعب بهم لكي
يُكشفَ وجهه أمامه، أو أمام الآخرين، وقد يعيش سنواتٍ طويلة، ويموت بعد أن لعب
بالجميع، وربحَ من الجميع، ونال شتى أنواع الاستثناءات، وربما يكون قد جمع
الملايين من أفواهِ الفقراء بحجةِ التبشير بالمسيح، أو الدعوة إلى الدين الإسلامي
في أصقاع الأرض البعيدة، أو من أجل حلم إسرائيل، أو من أجل غيرها من أدواتِ
التلاعب الشهيرة، والتي لدى كل الناس إلى حد كبير شيء من الفهم لها، ولدى كثير من
الناس قابلية للتأثر بها.
للمتلاعبين نهايات بعضها وخيم، بدأ من اللين
والرفق واللطف، وانتهى بالانتحار الجماعي لطائفةٍ كاملة من المخدوعين، كما حدث في
حكاية القسيس جونز، الذي بدأ مسيرته في التلاعب تحت مظلة القانون الأمريكي، وصنعَ
مجتمعا يساريا متنورا، مبنيا على التضحية، والتساوي في زمنٍ كانت الولايات المتحدة
تعاني فيه من أبشع ويلات الوضوح في العنصرية، واليسارُ وقتَها لم يكن كما هو الآن
متوحشاً، فضلاً عن قرب كل تلك المراحل زمنياً من حروب أمريكا الساخنة والباردة ضد
الشيوعية. القسيس جونز، المتلاعبُ الكبير، قاد عملية اختطافٍ تلاعبَ فيها بدولةٍ
كاملة، وبمجتمعٍ صغيرٍ ما أن وجدَ نفسه بعيدا عن مظلة القانون الأمريكي إلا
ليكتشفَ أن رجالا مسلحين يحيطون بهم، وأن قسيسهم اللطيف المفعم بالقيم قد بنى
مدينةً في دولةٍ بعيدة، في غابة معزولة ليحيط بهم برجالٍ مسلحين، اكتشفوا أنهم
عاجزون عن الهرب، وعندما شعرَ القسيس جونز أنَّه أحيط به أحاطَ بمعظمهم إحاطة السوار
بالمعصم، وحفلت أجهزة التلفاز العالمية بصور الانتحار الجماعي، جمع أتباعه وتحول
التمرين الدائم [على الثقة] الذي كان يقوم به مرارا وتكراراً إلى واقعٍ مرير، بدأت
فيه الأمهاتُ بتسميم أبنائهن، وانتهى المطاف بحالة الهلع العام، والتدريب المتكرر،
ومكبرات الصوت التي تعيد وتزيد خطب القسيس، والهلع، والموت، وكل ذلك قادَ إلى
نهاية إنسان بدأ متلاعبا، ثم تحول إلى مجرمٍ ينسحب خيط التأثير من يديه، وحولته
السلطةُ العبثيةُ التي وصل لها في تلك القرية البعيدة إلى قاتلٍ من أبشع قتلة التاريخ.
هذا ما يحدث للمتلاعبُ بعد أن يصبح كسولاً، ويشعر أنَّه وصلَ إلى واقعٍ يفوق قدرة
خيالِه، بعد أن كان متلاعباً بارعاً، اضطر لاستخدام المسدسات، والرجال المسلحين،
ولعله إن لم يتحقق مناه وأمله بالذهاب بعيدا، وعاشَ تحت مظلة القانون الأمريكي
التي كانت ستردعه، كما ردعت غيره من قادة الطوائف المُعلنة والسرية، لعله الآن
ماتَ على ويوصف بالبطل العظيم، وبالقسيس اليساري الذي استطاعَ جمع الأبيض، والأسود
في طائفة واحدة يدينون لله بكل شيء، وللقسيس جونز بالحياة الجميلة التي عاشوها تحت
مظلة الوهم الرومانسي الذي كان يجيدُ العزف على أوتارِه، والضغط على أزراره.
يبدأ المتلاعبُ حياة التلاعب بعد أن يعرفَ أدوات التأثير
التي تؤثر على الآخرين، قد يفعلُ ذلك لأنَّه يعيش في محيط يعتبر التلاعب العاطفي
جزءا من نمط الحياة المتعارف عليه. عائلة مخملية، أو عائلة حلوة اللسان ضعيفة
الحال، لا يهمُّ عدد الاحتمالات الاجتماعية التي تجعل الإنسان يتعلم فنَّ التلاعب،
أو يتعرض له مبكرا. عائلة متدينة، أو مراهق يدخلُ دوَّامةً من الشهرةِ في سن مبكر،
أو الشعور بالنقص، التلاعب هو فنُّ التأثير على الآخرين لدفعهم لفعل ما يجعلهم
عادةً يرفضون فعله. فنُّ المتلاعبُ الكبير هو ردةُ فعلِه، وما يوقعه من مشاعر في
الآخرين تجعلهم يرفعون حواجزهم، كما اتفقنا في البداية، التلاعب الذي يتم تأمله
هُنا هو ذلك الذي لا ينتهي للأذى، ولا يهدف له، يهدف للنفع، المعنوي، أو المادي،
المتلاعب ليس ذلك الطفل الصريح الذي يصرخُ في المتجر ويريد شراء لعبة، المُتلاعب
هو ذلك الطفل الصبور الذي يصمت لعدة أيام، ويرفض اللعب، ولا يتكلم، وينظر لأمِّه
وأبيه بنظرة حسرةٍ، يرفض الأكل، ويبقى مترقبا، ملهوفاً ينتظر نهاية صمود أمِّه
وأبيه، لكي يرسمَ على وجهه بورتريه اللامبالاة الحزين وهم يأخذونه لشراء اللعبة
التي جعلته حزينا، الطفل المتلاعب، ذلك الذي نطلق عليه خطأً كلمة [الخبيث]، ولسنا
بصدد تحليل معنى هذه الكلمة الذي تشظى بين السياقات. الطفلُ في هذا المثال مشروعُ
متلاعبٍ بارعٍ قد يتمرن على ضحاياه الأوائل، وذهب به الحال إلى مسيرةٍ طويلةٍ يدرك
فيها أن الأشياء في هذه الحياة لا تحدث بالصدامِ دائما، قد تحدثُ بالصبر، واللعب
على الأوتار المناسبة.
تعلم الصبر هو إحدى المهارات التي تأتي مع
المتلاعب البارع. يفعل ذلك هؤلاء الذين يرسلون رسالةً واحدة، يعلمون أهميتها، ومن
بعدها لا ينتظرون رداً. لا يكشفونَ لهفةً. وبعد تهيئة بسيطة من قبل الحياة لهم،
يبدأ المتلاعب فنَّ رصد الآخرين، وردات فعلهم، وتقوده المكاسبُ التي تنهال عليه
نتيجة تلاعبِه إلى أرباحٍ من المال، والحال، إلى امتيازات معنويةٍ تدفعه للهوس
بهذا المسار في الحياة، وتتشكل شخصيته على هذا الأساس. المتلاعب ليس من النوع الذي
يصرخُ في وجه شخص أهانَه، وليس من النوع الذي يغضب، وقطعاً ليس من النوع الذي
يستخدمُ العنف بسهولةٍ، إنَّه من أولئك الذين يصنعون صلاتٍ دفاعية مع كثيرين،
ويعززون فيهم الشعور بالنبل، وبالدفاع عن الضعفاء، والمظلومين! وما أجمل دور
الضعيف للمتلاعب! وأن يكون المتلاعب ضحيةً حقَّا! فلا عجب أن ترى بائع دموع محترفٍ
يجول في الأرجاء، لقد باع الصهاينة دموع اليهود في كل مكانٍ، وإلى زمننا الحاليِّ
فإن تعاطف الأجيال المتتالية مع مشروعٍ دمويٍّ مثل إسرائيل مبني على ذلك [الظلم]
المحزن، من قال إن التلاعب لا يمكن أن ينشئ دولاً، أين تلك النعومة؟ وأين الإنسانية؟
وأين دولة [كلنا واحد]؟ وكل تلك الدعايةِ عن يهودِ السلام، واللطف؟ يهود
الهولوكوست المحزونين؟ تحولت إلى دولة القتل، والفصل العنصري، والاحتلال الدموي،
والمجتمع المعسكر. مثالٌ على خطورة المتلاعب عندما يتحول إلى إنسان قويٍّ، فيكون أخطر
من الأقوياء حقا، وطفولته التي قضاها ضعيفا، متحايلا، يتجنب الصدام، يقضي بعدها
طفولةً أخرى في عالم [القوَّة] فيتوحش، وعندما اكتشفَ المسدس في يده أدركَ أن لديه
أكثر من سلاح في يديه، القسيس جونز مثالٌ فردي مقابلٌ للهوية المتلاعبة، والتيارات
السياسية التي قادت جموع الساذجين حول العالم للتصديق أن ظروف نشأة إسرائيل
العاطفية وراءها رسالة تختلف عن حقيقة الحياة القائمة على النزاع، والقوة، وما
يأتي مع ذلك من سفك دماء وسرقة موارد!
المتلاعبُ الفردُ يختلف بلا شك عن هذا التلاعب
الجماعي، القائم على التنظير والدعاية. ولنفرق بين النرجسي السام الذي يلعب على
مقامٍ نشازٍ في روحِك، وذلك العازف البارعُ الذي يقنعك أنك أنت الذي تعزف أجمل
الألحان من فؤادِك النبيل. هل يفهمُ البعض الجرح المرير عندما يكتشفُ أن قريباً له
قد تلاعبَ به؟ وقد استخدمَ أحزانَه عُذرا لكيلا يُقال له: لا! لا يجب لومَه، لا
يجبُ نصحه، لا يجبُ فعل أي شيء؟ لماذا؟ لأنَّه حزين، ربما لأنه يعاني من إعاقة
جسدية، ربما لأنه شفي من السرطان! نعم! التلاعب العاطفي يحدثُ لأننا سمحنا به، أو
لأننا أردناه. إن لم تكن الحياة قد وضعتك ذاتَ يوم في طريقِ إنسان على كرسي متحركٍ
يقوم ببيع المخدرات، فإن شرطياً في مكانٍ ما قد مرَّت عليه، كما مرَّ على كثيرين
نماذج من هؤلاء المتلاعبين، الذين يحبون التحرك تحت منطقة الامتياز تلك، امتياز
غياب الشك، وتحريكهم البارع لشعور الآخرين بالشفقة والنبل. هذه إحدى طرق
المتلاعبين الأثيرة، يشعرونَك بنبلك، وبكرمك، وبعدها لا يخجلون من استغلالِك بلا
رحمة، وعندما يهدأ شعورك بالنبل، أو بأنَّك المنقذ الهمام يعاودون العزف على ذلك
الوتر، وكل متلاعبٍ ومهارته، منهم من يعرفُ كيف [ينتفُ] المال من مجموعة قليلة من
الناس، فهو المريض بفقر الدم المنجلي، ذلك الذي يعيش حياتَه بين المستشفى والغرفة
المغلقة، ولكنهم لا يعلمون أنَّه أيضا مقامرٌ محترفٌ، يصرف آلاف الريالات في
إدمانِه على القمار، أو ما هو أسوأ، قد يكون مدمناً على العاهرات، أو المخدرات، أو
واهماً يظنُّ أنَّه سيصبح ثريا ويحاول اختراع آلة عجيبة في قبو المنزل بأموال
الآخرين التي يسحبها بذكاء [وحرفنة]. عزيزي القارئ، أرجوك لا تقرأ كلامي وتشكك في
كل شخصٍ حولك، لا تشكك في كرمك، ولا في نبلِك، لا تستجب لنداء الأنانية الذي يمنعك
من العطاء بحجة [لا أحد يستحق، جميعهم يكذبون] إن كنت حريصاً، أو أنانيا، أو ما
كنت، أرجوك لا تستغل هذا الكلام وهذه الأمثلة لتعزز شيئا سابقا موجودا بك، صعوبة
العطاء عليك، وعسر الكرم، فمثلما العالم يعجُّ بالمتلاعبين، فهو أيضا يعجُّ بوسائل
مقاومتهم، ولعل الجمعيات الخيرية بكل ما فيها من فرق البحث والتمحيص والتدقيق
تكفي، لذلك أود أن أشير لذلك قبل أن [تتأثر] بكل هذا الشك المتناثر في جسد هذه
الورقة فتلومني على شيء هو من الأساس شبه قرار اتخذته وكل ما تحتاج إليه هو دفعات
قليلة من التحريض لكي تذهبَ إلى حياةٍ خالية من العطاء بحجة أن الجميع يكذبون، إن
كنت تشعرُ بذلك، وتتجنب توسعة دائرة التثبت، فأنت لديك مشكلة أخرى، المتلاعب هذه
المرَّة هو ذلك الذي يوسوس لك في داخلك لكي تعيش في هذه الحياة وأنت تأخذ ولا
تعطي!
للمتلاعبين سحرٌ جميل بمعنى الكلمة عندما يتعلق
الأمر بما هم قادرون على إيقاعه في الآخرين من تأثير حسن. وكلما كان المتلاعب
قنوعا أحبَّه الناسُ أكثر، من هذا الذي يمانعُ شراء مشروبٍ لإنسان ظريف في حانة؟
ذلك الذي يمنحك أذنه، أو يؤجرك لسانَه ليقول لك كل الكلام الذي تحلمُ بسماعه من
الجميع؟ متى نفرِّق بين كونه متلاعبا أو لا؟ في الهدف! هل يفعل ذلك حقا! ولديه
نيَّة، ينتظر تلك [البيرة] الباردة لكي يتشجع ويكمل كلامَه؟ هل تتوقف حماسته عن
الكلام إن جفَّ حلقه؟ هنا نستطيع الفهم، حتى وإن لم يستطع هو الفهم، هُنا كبشر
خارجيين نفرق بين التلاعبِ المقصود، أو غير الواعي، هو تلاعب ما دام يتعلق بهدفٍ،
وأنت نفسك عزيزي القارئ قد تكون أحد هؤلاء دون أن تدري، متلاعباً بالآخرين، وكل
الذي تريده هو ما يمكنهم أن يفعلوه لك! هل يسلم إنسانٌ من شر التلاعب؟
المتلاعبُ رجلٌ أو امرأة. ذلك الشابُ الذي يقول لك
أنه تزوج امرأة مصابةً بالسرطان، في التسعين من عمرها، لأنَّه يحبها، ويدافع عنه
جموع الرومانسيين بحجة أن الحب لا يعترف بالأعمار! ونعم هذا ليس مستبعداً، ربما إن
أثبتَ أنَّه متنازل عن وصيتها، وعن نصيبه في الميراث، أما ارتباط مصلحة مباشرة بكل
هذه الرومانسية الوردية! بربَّك! إن كنت تريد تصديق هذا الهراء فلا بأس، سنتفق
أنَّها احتمالات، وكوننا كبشر لا نعرف ما بدواخل الآخرين فإنك كرومانسي تفكر باللون
الوردي فلا بأس، لديك وجه حق في احتمال صوابِك، ولدينا ألف وجه حق في احتمال خطئك،
ومن يدري بما في النفوس! وهذا المثال هو نفسُه ينطبق على العشرينية التي تغوي رجلا
في الثمانين، وليكن مليونيراً يقضي أيامه الأخيرة مع أسطوانة الأكسجين والعلاج
الكيماوي، إن لم تشعر أنها تتلاعب به فأنت [قد] تكون تعيش في حياةٍ جعلك
المتلاعبون فيها تشعرُ بالنبل، والكرم، والرومانسية، وهم يسحبون اهتمامك، أو
مالَك، أو يستظلون بما لديك من علاقات وقدرات ومهارات يأخذونها مجانا فقط لأنَّك
تريد أن تشعر أنَّك كريم ونبيل، ولطيف، ورحيم.
يتباين البشر في خضوعهم لمهارات المتلاعب. امرأة
عجوزٌ تضع مدخراتها في يدِ داعية واهمٍ يقول إنه على وشك أن يكتشف دواء للسرطان، وامرأة
تكتب البيتَ باسم زوجٍ لئيم، لا يسرقه، ولا يبيعه، ولكنه يريده نقطةَ لي ذراع معنوية،
ضمن تلاعبه لكي تكون الحياة كما يحبُّ ويشاء. كما اتفقنا، المتلاعبُ الذي نسردُه
هنا ليس ذلك الذي يرتكبُ فعلاً خاطئا، إنَّه ذلك الذي يفعل الصواب في كل شيء
تقريبا، البارعُ في إشعارِك بالبهجة، وبأنَّ الحياة [بخير] ولا تخلو من الصدق،
والنبل، والرومانسية، وبأن الثقة بالناس ممكنة. الذي لا يمكن رؤيته هو الجانب
الآخر من حياة المتلاعبين، عندما يخططون بعنايةٍ لما يقولونه، وكيف سيبدون، ولا
تخلو الحياة من المتحايل الغبي الذي يقود سيارةٌ قيمتها آلاف الريالات ثم يبكي على
مسامعك وهو يقول لك: ليس لدي نقود للعشاء! أو ذلك الذي يبيع لك حزنَه فقط لكي تمنعه
من أن يتصل لك في منتصف الليل، يجابهك بنبرته الحزينة جدا: ليس لدي غيرك لأكلمه!
متلاعب مسكين، بسيط، الاهتمام مرادُه، كل ما
يطلبُه هو أن تسمح له أن يكون الإنسان الذي يتصل بك في أي وقت. لا يختلفُ عن ذلك
الذي فجأة يكذبُ ويقول لك أي كلامٍ ممكن، فقط لكي تخجلَ وبسيف الحياء يصرُّ على
اختيار الفيلم المناسب للسهرة! يجهز العدة قبل دخولك لشقة الشباب، ويخبرهم عن
حالته النفسية السيئة التي يعيشها، وكيف أنه وجد فيلما! ما الوجه الواقعي، أنَّه
ببساطة بالغة قرر أن يشاهد ذلك الفيلم، أما هؤلاء الذين هم أصدقاؤه فهم شيء هامشي
يمكنه أن يغير ترتيب ليلتهم فقط لهذا الهدف البسيط، وليت كل متلاعب في هذه الدنيا
يفعل فعل هذا الظريف الذي يقرر أن يصاب بيومٍ سيء فقط لكي تسمح له أن يختار فيلم السهرة! لا بأس بالوقوع في هذا الفخ إن كان صاحب
ذوق جميل في الأفلام!
المُتلاعبُ البارع يحضر في التوقيت المناسب، وهو
صاحب مهارات جميلة للغاية إن تم استثمارها في أشياء أخرى تعود بالنفع عليه وعلى
غيره. هذا ما يقوله منطق تبادل المنافع بين الناس. للأسف الشديد، لا يعلم
المتلاعبُ أنَّه قادر على فعل أشياء خيِّرة بمعنى الكلمة، وعلى إشعار كثيرين
بالرغبةِ في الجلوس معه دائما، وعلى بث طاقة من الإيجابية والفرح في قلوب الآخرين،
لديك فنُّ الكوميديا على سبيل المثال، إنسان متلاعبٌ يوصلك لمرحلة خارج وعيك،
والضحك فعل غير واعيٍ، لكنه لا يطلب امتيازات تفسد لحظاتك الجميلة، لا يرهقك
عُسراً بسموم يومه، لا يفسد عليك نظرتك فقط لأنه يطلب مصلحةً معنوية مثل أن يشركك
في مزاجه السيء، لا يحاول نيل بعض الريالات من جيبك ليقامرَ بها دون علمِك بحجة
أنه فقير ومسكين. وتذكر عزيزي، ليس كل من يعيش هذه الظروف متلاعب، البؤس موجود في
هذه الحياة، والفقر موجود، وما يعشعش من ديدانٍ في هذا البؤس هم هؤلاء البارعون في
نيل مرادِهم، وإشعارك أن هذا مرادك. المتلاعب لا يكذبُ بقدر ما يخفي، ويعلمُ علم
اليقين أن بدايةِ محاصرته بالأسئلة عمَّا يفعله، ولماذا يفعله! يعني أن حبل
التلاعب نصف القصير، نصف الطويل، قد بدأت أليافه في فقدان تماسكها، سيتوقف عن
الشد، وربما يرحل بعيدا، وسينتظرك بكل صبر لكي تعود إليه، وتعوضه عن كل الذي فات.
كُل أشكال التلاعب تلفُّ وتدور حول إنسان لم يكمل بناء دفاعاته كما تحتاجُ حياة
الفرد المعياري. حول ذلك النقص الذي نعيشُه، والورطة التي يجدُ فيها المرء نفسه
وقد وقعَ فيها، محاطا بكل هؤلاء الذين يجيدون العزف على أوتار نقصه، ومشاعره التي
يتوق للحصول عليها من الآخرين. كُل نرجسي متلاعب، ولكن ليس كل متلاعب نرجسي،
البعضُ لديه تصديقٌ كبيرٌ لما يفعله، يمكنك أن تعينه ببعض الصراحةِ، وأن تخبرَه عنما
يفعله بك، ويمكنك أن تشير له عن تأثيره على نفسه وعلى الآخرين، البعض يتحول إلى
كابوٍس مؤذٍ، وقد تكون سيء الحظ الذي يبدأ به حياةً من إيذاء الآخرين، وتهديدهم،
وابتزازهم، وربما سرقتهم، وربما في حالات قتلهم، أو قد تكون حسن الحظ وتكون ذلك
الإنسان الذي أهدى لإنسان آخر بصيرةً يحتاجُ إليها، تلك الصراحة، وذلك الصدق هو
الشعور بالنبل الذي يجب أن تشعر بها عندما تجدُ إنسانا يتلاعبُ بالآخرين وهو لا
يعي أنَّه يفعل ذلك، هذا الشعور يكفيك، بدلا من عقدة المنقذ، أو الكريم، أو
الإنساني، وغيرها من الأوهام الي نملأ بها نقصاً داخلنا، يجب أن نملأه بها. وبهذا
ينتهي سردنا عن المتلاعب الظريف، الذي لا يؤذيك، ولكنه لا ينفعك! ينفع نفسه فقط،
وكل ما يفعله هو أنه "يعطيك من طرف اللسان حلاوةً" وأحيانا! هذا كل ما
نحتاج له في لحظات كثيرة، والمتلاعبون يعرفون ذلك جيدا!
معاوية الرواحي