بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 13 مارس 2023

حضورٌ ذهني: أسئلة الاعتبار!

 

 

 يبدأ صباحي بحرب. الصراعُ مع عاداتٍ تكوَّنت في سنين متتالية، وإملاءُ اللحظة يُطلق نداءاتَه لأفتت لحظة الكتابة هذه وأحولها إلى بسكويتٍ مهشَّمٍ يتناثرُ في تويتر. عادةٌ ترسخت وغيَّرت معها شكل الكتابةِ جذريا. حتى هذه اللحظةِ وإلى أن أتجاوزُ ذلك المفروضُ على الناسِ قسراً من عددٍ للحروف، ومن اشتراطٍ للقارئ لم أعد للكتابة اعتبارها، ويبدو أن مشوار الكتابة قد بدأ بشحوب ليأخذ سنواتٍ إضافيةٍ أخرى من هذه الحياة التي قضيتُ من شطرِها الكثير وأنا أكتبُ. راهبٌ شبه عبثيٍّ، أو عبثيٌّ يشبه الرهبان، هكذا قضيتُ سنوات العشرين للثلاثين من العُمر قبل أن يُظلمَ كل شيء، وأتحول إلى قصةِ حياةٍ مليئة بالنكسات، والنجاحات، والانكسار، والنجاة، والصراع بكل ما يأتي معه من هزائم صغيرة وكبيرة، وانتصارات صغيرة وكبيرة. هكذا يبدأ صباحي، بهذا الحرب إلى حين اكتمال الفقرة الأولى، وتكوِّن الخارطة الذهنية لمادة مكتوبة، بخطِّيتها، وترتيب فقراتِها الكلاسيكي.

الآن، في هذه اللحظة. عقلي جامدٌ، وأفكاري شاحبة. اهتمامي منصبٌ على الكتابة عن الكتابة. الجمل قصيرة تؤكد هبوط المزاج، وآثار النوم المضطرب، وتأخر مفعول الكافين في الدماء. لا أعرفُ هل الكتابةُ ستعجِّل من وصولُ لحظة الانطلاق إلى يومٍ مكتمل، أم ستعطلها. هذا هو الفرقُ بين الكتابة الدوبامينية ذات الإشباع السريع في تويتر، وهذه التي سيقرؤها عشرة أشخاص بالكثير، تلك ترفعُ المزاجَ بسرعة، وتُبدأ اليوم بسرعة. هُنا يختلف الحال. تستمرُ مقاومتي لفتح الصفحة الزرقاء، تنسلُّ السطور من أناملي، وتلاحقني بعض التركيبات اللغوية المتعارف عليها بيني وبين ذهني، مع ذلك لم يعد الأمر يتعلق بلحظة الكتابة. أصبح يتعلَّق بالكتابة واعتبارِها في حياتي. الآن فقط فهمتُ ردَّ الاعتبار الذي حضرَ مصطلحُه في ذهني بداية الصباح، لا يتعلقُ بشأن خارجي، وإنما بشأن داخليٍّ بحت.

 

تجنبتُ قبل ثوانٍ كتابة جملة [أنا مسكونٌ بالخارج]. هذه التعميمات غير منطقية وتشوِّش فردية الكلام، وذاتيته، لتجعل تمرين الحضور الذهني ضمن سياقات العالم الخارجي، ونظرته لي كفرد، فأعود تلقائيا إلى لحظات الحضور الاجتماعي، وكل تلكَ المعركة الصاخبة التي اضطررت لخوضِها فقط لكي أدافع عن مربعي الاجتماعي الخاص بي. كتبت عن ذلك في نصوص سابقة، في لحظات حضور ذهني، وفي التدوينات التي أسردُ فيها علاقتي مع المعالج النفسي الألماني الداهية الذي يعلمُ كيف ينسجُ الأسئلة حول همومي ومخاوفي. نزعةٌ ما جعلتني أتجنب هذه الجملة، وتدفع بي إلى مراقبة أفكاري، بلا نزعة نقدية، وبلا حس بالتوجيه، والأهم بلا تدخل منِّي. تمرين الحضور الذهني الحقيقي تكتشفُ فيه ما تريد قولَه بعد أن تقوله، حتى هذه اللحظة ذلك العقلُ النازع للتدقيق والشك هو الذي يكتب، سينطلقُ كل شيء بعد قليل، السرعة تتحسن، والكلمات تتشكل، وهذه الجُملة كُتبت دون إدراكٍ مني.

لماذا جئت هُنا؟ لأنَّ كلمة [الاعتبار] تخلَّقت في ذهني. لعلها انعكاس المعركة الاجتماعية التي تسبب لي التوتر والربكة. لماذا أستخدم كلمة [معركة] هُناك سبب ما! لماذا لا أقول الرحلة؟ أو الحالة؟ المعركة! ضمن بقايا شخصية مليئة بالغضب! يخطر في ذهني الآن تعبير مغاير، الحسرة على الاعتبار! وفي الجانبِ الآخر، حسرةٌ على ماذا؟ أي تجربةٍ يعيشها الإنسان ليتفرغ للكتابة عدة سنوات! بدأت أفهمُ ما الذي أنجو من تلابيبه. النظريةُ الحادَّة التي يتعاملُ بها المحيط الثقافي الذي حولي مع الكتابة، تمجيد الإناء! كل ما لم يوضع في كتاب فهو لم يحدث! أها! هذا هو سبب مقاومتي للانسياق وراء نداء اللحظة المٌلق، ولدغات النحلِ اللطيفة على قشرتي المخية. إن كنت لم أؤمن يوما ما أن الكتابة هي إناؤها، وكتبت كل هذه السنين متناثراً بين الصفحات، كتبت ما وصل للقارئ، وترك أثراً، وحقق تأثيراً معقولاً في محيطٍ مقبول من القراء، فما الذي تغير عن ذلك الذي أكتبه وقتها والذي أفعله الآن؟ تغيرت بعض الأشياء، منها نفسُ الكتابة، وسعة المساحة، وإعطاء الفكرة حقها من الأخذ والرد. نعم! هذا هو الذي يحدث، من الشد والجذب، إلى الأخذ والرد، ومن التفاعل المباشر مع القارئ إلى التفاعل الداخلي بين النص ونفسه، مساحةٌ تكبرُ، ومعها تأتي امتيازات الورقة البيضاء مقارنةً بالمنصةِ الإلكترونية، والمربع الذي تضعُه أمامي. [مجددا يعود تويتر للبال] سلوكٌ انسحابيٌّ، وأبني حاليا دفاعاتٍ ضد الشحوب الذي يكتنفُ هذه الكتابة الخالية من الإشباع السريع. ما هو حكمي على هذا الذي أكتبه الآن؟ هل هو موجه للتاريخ؟ قطعاً لها! موجه للقارئ؟ ربما! ولكن أي قارئ؟ المُعالج الألماني؟ أم الصديق الذي يجد الإجابات على هموم يومٍ في أسبوع؟ أو أسبوع في شهر؟ ثمة قيمة في هذه الكتابة غير تمرين الحضور الذهني. تعديل النفس، وتهيئة النفس للإقلاع البطيء للإشباع، وبهجة الاكتشافات الجديدة في نهاية جلسة كتابة مدته ساعة ونصف في بداية الصباح.

هذه الغيمة الذهنية من الأفكار غير المنظمة تؤثر على لحظات الكتابة الأخرى. تندسُّ في السطور، وتصنع تداعيا غير محبَّذٍ وفق اشتراطات كهنة النقد الأدبي، أو القارئ الغضوب الذي يريد أن يقرأ في الموضوع فقط. هذا التمرين له فوائد فوق ما توقعت، تقضي وطرك من ذاتية الكتابة، ووظيفتها النفسية، وفوائدها العلاجية، وكونها امتيازا تأمليا. عامل الاسترسال يعملُ بكفاءة عالية، ولسبب ما أعدل بعض الجمل لتتناسبَ مع منهج الفقرة المستقلة! يبدو أنني بدأت أتعلم تحرير النصوص التي أكتبها، وأجهزُ لخطة مستقبلية مليئة بنشر الكُتب. أعود إلى الغيمة الذهنية، أكتشف فائدة جديدةً، وأقارنُ بين التدوين المتخالطُ الذي كنتُ أمارسه لسنوات، وهذا الأكثر هدوءاً الذي أمتهنه الآن. أتجنب فصل الفقرات عن بعضها البعض، ولعل قراءة واحدة لهذا النص بعد نشره ستجعلني أفهمُ أكثر، تلك لحظة أخرى! لحظة القارئ!

أتغلب على مشاعر التشويش بالتشويش البديل، إن لم تكن صفحة تويتر التي أتشتت فيها، فهي صفحة الواتساب، والمراسلات مع الأصدقاء. [كدتُ أن أشرح الواتساب، وأتداعى في ذلك وتوقفت، مع ذلك لم أتوقف عن الانتباه إلى أنني كدت أن أشرح الواتساب] طبقات من الحضور الذهني والذي لم أتوقع أن نفعَه مدهش إلى هذا الحد، جملة خارجية، ثم أخرى داخلية، ثم أخرى فوق وعي اللحظة الداخلية. الحضور الذهني بالكتابة يحتاج إلى سرعةٍ في ملاحقة الأفكار، ولحسن الحظ هذا الهبوط الصباحي يفي بالغرض، وكأن الأفكار تسبح في سائل مخاطي لزجٍ يمنعها من الحركة بحرية، هذا هو التكبيل الحميد الذي يمقته الكاتب وهو ينسجُ نصا يأمل أن يكون مبدعا فيه، ويحبُّه وهو يستخدمُ الكتابة ضمن عملية علاجية طويلة الأمد.

ذهني يتحرر بعض الشيء من خمول هذا الصباح. الحياة لا تخلو من التشويش، ظروف اجتماعية تطرأ، وأجد نفسي مضطرا لتشغيل عقلي في مكانٍ آخر. الساعة تقتربُ من العاشرة، أحتاج إلى قهوة [إسبريسو] وسأدفع بذهني دفعاً إلى حالة النشاط الذهني، يا إلهي! لدي امتحان غداً، يجب أن أنهي فصلين متتاليين، وأحفظ النقاط المتعلقة بها، حسناً، كانت لحظة لا بأس بها، وصلت إلى بعض الخلاصات، وأدت الكتابة غرضها، لا داعي للحدية يا ماريو، يمكنك أن تعتبر تخلصك من الفضفضة تلك التي يصعب الرجوع إليها في خط تويتر الزمني [التايملاين] منجزا صباحيا لا بأس به في لحظة الحضور الذهني هذه.

 

ماريو