الساعة الحادية عشرة ليلا. هل هي الحادية عشر، أم غيرها! لا طاقة لي الآن
لأتأكد من جوجل عن تمييز المعدود، إن كان هذا اسمه من الأساس. أختم يوماً طويلا
يندمج فيه العملُ، والدراسة، والتواصل مع الناس. يومٌ قيّدت فيه إلى حد كبير وجودي
في تويتر، وتلك اللهفة للتأكد كل قليل مما يحدث في هاتفي. أجنُّ بإيجاد البدائي
التعويضية، وأستسلم في النهاية لملفات الكلية، وأغوصُ في دهشةِ اكتشاف علم النفس
من ناحية أكاديمية. كنت أظن أن اهتمامي السابق بعلم النفس سوف يعطيني امتيازا
كبيرا سيسمح لي بالحصول على درجاتٍ عاليةٍ في المواد التي أدرسها، يتضحُ لي أن
الدراسة دائما، وأبدا هي فنٌّ مختلف عن نيل المعرفة. نيل المعرفة جزءٌ، وإتقانُ
الحصول على درجات عالية فنٌّ مختلف. عودة صفة [طالب متفوٌّق] لعبت دوراً كبيرا في
اتزاني النفسي. أن أعرفَ أكثر هذا مفهوم تفاعلي واسع النطاق، أن أحقق نتيجة عاليةً
في السجلات الرسمية هذا شيء آخر، مرتبطٌ بسقف الإنجاز الممكن. عشرون سنة من العقدة
الدراسية تركت آثارا كبيرةً في عقلي، نتيجة امتياز غيرت المعادلة، أعادت ذلك
الطالب المتفوق من غرقه الطويل في فكرة [الثانوية العامَّة]. أتعامل مع الدراسة
بقلق يفوق اللازم، وحرق أعصاب لا داعي له، أعلم أنني أستمتع بهذه المشاكل، الحمد
لله أولا وأخيرا، عندما تنتقل من مشاكل مثل الصدام مع السلطة، والتعامل مع كونك
تتعرض للأذى، وتؤذي، أو أن تكون فضيحة اجتماعيةً تمشي على قدمين، فضلا عن تفاصيل
أخرى كثيرة متعلقة بالاضطرابات النفسي، إلى طالبٍ كل همَّه ألا يخسر نصف درجة في
امتحانٍ ما، هذا قلقٌ جميل، ولطيف، وظريف بمعنى الكلمة.
أصنع علاقة تتبلور كل يوم مع هذا التخصص، أولها مع معالجي النفسي الألماني
الداهية الذي كان بارعا للغاية حدَّ حدَّة السكين، ثم علاقتي مع زملائي في الكلية.
في السنة الثانية لا مزيد من الغرباء في التخصص، كل من فيه هم الذين يدرسونه
كتخصص، غرفة الدرسِ بأكملها طلاب في مجالِ علمِ النفس، كلهم حكايات تستحق أن تُروى.
عامل التحليل الحاضر بينهم يجعلُ الحوار مختلفا، إطلاق الأحكام ليس مهمة النفساني،
مهمته أن يفهم، الحوار مليء بالأسئلة والإجابات، وساعات الدرس كلها نقاشات لا
تتوقف، المنهجُ لا يروي الظمأ، ولولا مهارة الدراسة، وتلك المهارة المتعلقة
بالحصول على الدرجات لربما قضى كل هؤلاء الطلاب وقتهم في النقاش بلا توقف.
معارف علم النفس واسعة، بحر شاسع من الدراسات ومن المقاربات التي تهدف
للشرح، وللفهم، وللقياس. الوجود بجانبِ طلاب علم النفس يريح الوجدان، ويخفف على
المرءِ ضراوة الوجود مع الذين انطباعهم عن علم النفس هو [الجلوس مع المجانين]، أو
[إنسان معقد نفسيا يتتبع أمراض الأخرين ويعتقد أن الجميع مريض]، أو غيرها من [عالم
النفس/ الباصر] الذي يقول له البعض: تدرس علم نفس؟ حلل شخصيتي! الوجود بجانب هذه
العقول الشغوفة بفهم النفس البشرية تجربة إضافية، وقيمة مُضافة إلى تجربة الدراسة
نفسها.
لم يعد الذهاب للجامعة ثقلا على النفس، تغيرت مشاعري تجاه ذلك. وبعد أن
خففت من استخدامي لمواقع التواصل الاجتماعي أصبح الذهاب للجامعة حاجة ملحة. في
فصلي الأوَّل مع المواد التقديمية، وتلك التي يختلط فيها الطلاب خارج التخصص
بهؤلاء الذين يدرسون المواد الاختيارية كانت التجربة تختلف. لدي مادةُ اقتصاد
واحدة هذا الفصل، أرجو أن أحرزَ فيها معدلا جيدا، أرجو! لا أرجو فقط، تحركني كل
عقد الفشل التي عشتها في الدراسة لأفعل كل ما بوسعي من جنون، ولأحرق أعصابي،
ولأعيش خمسين ضميرا دراسيا فقط لكيلا أفلت درجة واحدة. الأمر لا يتعلق بالشهادة
بقدر انتقامي الحاد من الفشل الدراسي! لم أكن أعلم أن فصلا دراسيا واحدا يكفي كل
الكفاية لكي ينزاح عن قلبي ذلك الحمل الثقيل، إن كنت مررت بتجربة الفشل الدراسي
الذريع كما فعلتُ، وتقرأ هذا الكلام، فاعلم أنَّ الفصل الأول سيكون كارثة على
وجدانك، وعلى نفسك، وسوف تقاسي كل عقدك النفسية في الفصل الأوَّل أصعب مما مررت به
وقادك للفشل، ولكن جرِّب أن تنهي فصلا واحدا، بعدها ستعلم ذلك الشعور أن النجاح
الدراسي ممكن، والتفوق بالنسبة لطالبٍ فاشلٍ أسهل بكثير من التفوق لطالبٍ كل ما
يريده هو أن يعيش، وعلى الجانب يدرس بعض الشيء.
المشوار في بداية المشوار! من يتخيل أن سنةً دراسية كاملة مرت كأنه لمحة
عين، حدث لي الكثير في هذا العام، وأهم ما حدث هو تعاملي مع اضطرابي النفسي الخاص
بي، لا أفكر أن أصبح معالجا نفسيا، ولا أفكر مطلقا في دخول باب العلاج النفسي
للآخرين، أفكر في موضوعات مثل التقييم النفسي، وجوانب اقتصادية.
أن تدرس علم النفس بعد اهتمامٍ طويلٍ به فإنَّ الأمر يختلف عن تلك الكتب الطويلة
العريضة عن الإدراك، وعن الفهم، أو الذاكرة، أو الوعي، واللاوعي، وبلا شك، عالم
الاضطرابات النفسية المليء بالجاذبية. الدراسة تختلف عن كل ذلك، إنها تفكيك لكل
المكونات الأولى، وتحدٍ لكل قدراتك كشخص لا يحب الملل، نقاطٌ وراء نقاط، نقاط داخل
نقاط، وتجربة حياتية متكاملة الأركان، كل ما في هذا التخصص يدعو لإكمال الطريق،
وكل من في التخصص يدعو للتمسك به.
سنةٌ أولى، على وشك النهاية! كل ما أفكر به هو المعدل التراكمي، وكل ما
أتمناه هو الحفاظ عليه كما هو. خطة الانتقام من الفشل الدراسي تسير على قدم وساق،
والتساؤلات عن الظروف التي قد تحدث في البال، ولكن منذ متى يسيطر الإنسان على ظروف
الحياة. لحظةُ علم النفس تتكون من تشظيات لا نهاية لها من اللحظة نفسها. طالبٌ في
الأربعين يكتب يومياته، وكاتبٌ يعود للكتابة بعد سنوات طويلة من الهذونة، كل هذا
بدأ متأخرا بعد أن فات الكثير، وضاع الكثير، ما المهم محقا؟ لا شيء يفوت مرتين،
والإنسان مجبول على التفكير بغدِه.
أول آثار علم النفس على حياتي هو ذلك الهدوء عند التعامل مع الغرباء.
الحساسية الفائقة التي كنت أتعامل بها تتحول مع الوقت إلى هدوءٍ مفعم بالتحليل،
لماذا يقول من قال ذلك؟ وما هو السبب؟ لم تعد ردات الفعل تحمل تعميمات أدبية، في
الخطاب الأدبي كلمات مثل [البغضاء، الحسد، اللؤم] أما في التحليل النفسي فهناك ما
هو أكثر تفصيلا. كنت أعلم أن هذا التخصص هو الذي سأجد فيه الطمأنينة والحب، لم أكن
أعرف أنَّه وثير إلى هذا الحد، وجميل إلى هذا المقام المليء بالامتنان. لقد انتهى
يومٌ مُرهقٌ مع امتحان علم النفس التعليمي، المادة الأصعبُ في هذا الفصل، أرجو
أنني لم أخسر درجة هُنا أو هناك. غداً يومٌ جديد. أشعر بشوقٍ أقل إلى تويتر، ولم
تعد المذاكرة ذلك العبء الذي يقاسي مع النفس المشتت، أفكرُ بأشياء كثيرة، منها نشر
هذه اليوميات في كتاب سنوي، كان يجب أن أنتبه لذلك في بداية الفصل الأول، ولكن من
عساه ينتبه وأعصابه محروقة والقلق يأكله. يعلق أحد زملائي عندما بدأت بكتابة
إجابات الامتحان أنني كنت أشبه من يدخل معركة من المعارك. نعم هي معركة، وهذا
المشوار هو بداية المشوار، والهزيمة ليست خيارا مطروحا تحت أي ظرف ممكن!
ماريو