بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 3 مارس 2023

النجاة من النفس المُشتت!

 

 

 

أتحاملُ على الكتابة الإلكترونية. في عصر الدوبامين المجيد هذا لم تعد الكتابة تجربة نشر فحسب، كما كانت في زمانِها القديم. أي احتفالٍ كانَ لعتاولة الزمن القديم عندما أصبحت الكتب متوفرة على هيئة ملف [PDF]، ومن الفرحة العارمة أنَّه يمكنك وضع وصلةٍ في كتاب! ثم جاء عصر القارئات الإلكترونية، وانتقلت ثقافة القراءة إلى عصر الوفرة. ثمَّ جاء هذا العصر الكاسح بمنصاته المختلفة وتغير كل شيء!

الكتابة الآن أصبحت عصيراً متجانساً من تجارب مختلفة. فهي أولاً مُتعة التواصل مع الناس، والشعور بسرعةِ التلقي، ثم تأتي معها حالاتٌ من شهوات النفس، كشهوة الظهور والشعور بالتحقق، أو كثرة المتابعين والشعور بالوصول والمقروئية الوفيرة. هي تواصل اجتماعي، وتعارف، ولا تخلو من الصراع مع الغرباء. الكتابة في المنصات تجربة تستحق ألا تصبح عُمرا، هي تصقل الإنسان اجتماعيا وتتيح له تعلم أشياء كثيرة عمَّا يدور في ذهن الغرباء، زمن القارئ الخفي والغامض، وكذلك زمن الإنسان السام الجبان الذي لا يعرف أن يكون شجاعاً أو صريحا إلا باسمٍ مستعار.

لم تختلف جلسةُ الكتابة عمَّا كانت عليه بالنسبة للكاتب في العصر الحديث، طويلة، وممتدة، ولا تتوقف إلا لظروف الحياة القهرية، الذي اختلف هو أنَّها أصبحت مشتتة وقصيرة النفس. رحم الله الزمان الذي كان الحد المنطقي للفيديو المرئية هو ربع ساعة فحسب! أي زمان نعيش فيه الآن؟ عصر التسعين ثانية! كل يوم يمضي ينسف نفسنا ويحولنا إلى زبائن في متجرٍ ضخمٍ كل نصيبنا من بضاعته المزجاة ثوانٍ قبل أن نقفز إلى ممر آخر وسلع جديدة. هذه شروط زمان الكتابة الجديد، والمُفارق أنَّ أصحاب النفس الطويل، ونفسهم الذين كانوا مجددين في يومٍ ما، وروادا، بل وثوارا في عالم الكلمات هم الآن الجيل الكلاسيكي، تخيَّل! أن يصبح المدوَّن اليوم من الجيل الكلاسيكي القديم! الذي يكتب ستمائة كلمة في مقالٍ واحدٍ أصبحَ ثائرا على عصرِه. أين زمان حنابلة الكتابة؟ الذين لا يرضون لكلمة أن تخرج للقارئ إلا بعد أن تُطبع في كتاب، يصل للمطبعة وكأنه الوثيقة السرية لوصفة كوكاكولا، ويصل ليد القارئ بعد أن يحتفظ به الناشر في صناديق مختومة بالشمع خوفا من القرصنة.

الكتابة في زمن المنصات الوفيرة صديقة للكاتب، وليست صديقة للكتابة. تعطيه في الظروف المناسبة ما يكفيه من طاقة وتقدير ليستمر، هل هو كاتب جيد ومتقن؟ أم كاتب رديء ومستسهل؟ لا يهم! الظروف الملائمة للاستمرار في الكتابة متيسرة بشكل كبير، وإن وافق شنُّ القارئ طبق الكاتب وتواطأ الاثنان على المكوث للأبد في عالم النص القصير [الشَّذَريّ] تحولت تجربة الكتابة بأكملها إلى شذرات لا نهاية لها. تجربة مفيدة لكنها لا تستحق أن تمنح العُمر كاملا.

أحاول أن أتذكر فوائد الكتابة الإلكترونية، وأستحضر الآن الكثير. مفيدة لمن هو منعزل عن الناس يقضي الساعات الطوال في نحت اللغة. ملائمة للذي يريد أن يختبر الآراء النقدية الانطباعية بصورة فوريَّة. تغنيك عن الشعور بأهمية الأبدية في الكتابة، بشكل عام، هي كتابة [ترويق المزاج] تجعلك في حالة عاليةٍ من [المود] كما يحب الجميع تسميته في هذه الأيام. ولكن هل لها فوائد أخرى؟

نعم، فائدة تعلم الاختصار، هذه بلا شكل من فوائد الكتابة في هذه المنصات المُشَتَّتَة، والمُشَتِّتَة أيضا. الرأي يأخذ هيئة خالصة، خالية من المجادلة والإدلاء بالحجج. تكثر المعلومة وتقل الفائدة. إن أراد كاتبٌ بنفسه خيرا فليتعلم بعض هذه الفنون، تنفعه في كل شيء سوى في كتابته، ولا بدَّ لموعد أن يحين للنجاة من هذا الشتات، إن كنت تسألني عزيزي القارئ ماذا أفعل هنا في هذه المدونة؟ أحاول النجاة من شتات اللغة، وتناثر الكلمات، سأحاول أن أكون أقل تحاملا على عصر الدوبامين المشتت، ولعلي أجدُ هُنا ذلك الذي كنت أبحث عنه، الكثير من الهدوء، والفرصة للتأمل، والانكفاء على هذه السطور التي حان موعد نحته بعد سنين طويلة من التأجيل.

 

معاوية الرواحي