بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 5 مارس 2023

الأمر لا يتعلق بعائشة فقط!

 

 

إن الأمر لا يتعلق بعائشة فقط. نعم! عائشة من الرموز الثقافية لجيلٍ كاملٍ، ومع الوقت لعُمان قاطبةً. مثقفة حيوية، وشاعرةٌ مُنتجة، فضلا عن مهنيتها في التعامل مع موضوع الشعر، ومع حالاته المختلفة. عائشة الآن، مثل الشعر في كل آن، سؤال موضوعي متعلقٌ بالشعر ووجوده في عُمان وفي العالم العربي، وبأسئلة الشعراء، وهموهم، ووجدانهم المليء بالشعور باليأس.

كيف يسير العالمُ أجمع؟ وماذا يريد المتلقي؟ هذا مأزق الكتابة أولا وأخيرا! مأزق الكاتب! والأهم مأزق الحياة. هل يمكن لأي عقل أريب أن يجمَّل حقيقة العالم؟ أو مهنية الكتابة؟ نعم، الكتابة مهنة، ولهذه المهنة أعباء كثيرة منها تقبل واقع الحياة. الكاتب الكبير دان براون، مؤسسة كاملة متكاملة ومتحركة، مؤسسة ربحية استطاع بها أن يغزو العالم بمؤلفاته التي صنعت له ثروةً حسب بعض المصادر تصل إلى [160] مليون دولار، هذه الثروة التي أعادت ضخَّ وجوده الأدبي كروائي ومكَّنته من إدارة ماكينة الكتابة المعقدة والتي كانت ستستنزف منها عمراً كاملا ربما إن فعلها لوحده على طريقة المثاليين الذين يعشقون الأرصفة والشتات.

مثالٌ آخرٌ للكتابة كمهنة، كاتب النصف مليار دولار كما تشير بعض المصادر، ستيفن كينج، مثال آخر على ما يمكن لمأسسة مهنة الكتابة أن تفعله.

نعيش في كوكبٍ عُماني صعب على الثقافة، في دولةٍ عدد سكانها قليل، وفوق هذا الذي يكفي كبلاء لأي حركة ثقافية، نعيش في عصرِ المتلقي الصعب، الذي ينتظر من الكاتب، أو الشاعر أن يعمل كمتطوعٍ لنيل رضاه، تشيعُ في عصر التلقي الحالي في عُمان التصورات النمطية الرائجة عن ماهية الإبداع، ولعل المقولة المريرة الشهيرة [المعاناة تجلب الإبداع] هي الأبرز حضوراً عندما يتعلق الأمر بالعلاقة المبنية على المُرسل والمتلقي، المرسل بصفته كاتبا، والمتلقي بصفته قارئا.

النماذج القليلة جدا في عُمان والتي مأسست مهنة الكتابة صمدت مقابل مئات المواهب المبدعة، والعقول الفذَّة التي انتهى بها المطاف إلى هجرة الشعر والكتابة بسبب هذه الروح القاتمة والتي تتعامل مع الكاتب كمتطوع عليه أن يقضي باقي العُمر ليكتب من أجل ذلك الذي يسمى "المجد" .. المجد الأدبي والمجد الشعبي، والمجد الذي يطلبه المتلقي، التضحية التي يضحي بها الكاتب من أجل القارئ، ولا ننسى أننا في أمَّة تعترف بالكتَّاب الكبار بعد موتهم، حتى يكاد أن أفضل ما يحدث لمسيرتك في الكتابة في العالم العربي هو أن تموت، بعدها يتوقف المتلقي بشروطه القاسية عن طلبِ المزيد من المعاناة لكاتبه الميِّت الذي يفتتن به.

في عُمان، قلة عدد السكان شيء، وثقافة "الدعم" الرائجة شيء آخر، قلةٌ من الشعراء الذين جعلوا من الشعر مهنة تسمح لهم بالاستمرار في ممارسته، نعم، جعله مهنة يكسب منها رزقه، وللأسف الشديد فإن هذا السلوك ممجوج من قبل منظرين كثر في الساحة، ولا يُلامون على ذلك، فالإبداع التجاري الضحل له نصيبٌ كبيرٌ من الحضور، وفي المقابل المبدع المنشغل بإبداعه فقط لا يملك تلك المهارة التجارية التي تسمح له أن يتحول إلى مؤسسة، أو على الأقل أن يكون تحت جناح مؤسسة تنصفه، ثقافة الدعم في عمان، التي يرتاح لها البعض، يرتاح لشيك الخمسمائة ريال، ومكافآت الرحلات الشحيحة وتذاكر السفر وحجوزات الفنادق، هذا لا بأس به، هذه ليست تجارة، إنه تسوَّلٌ شهم، ونبيل، وكريم، فالناس لا يعلمون عن الحروب الداخلية التي تحدث بين المثقف فلان والمثقف علان، والغضب عندما يذهب أحدهم في رحلة وأحد ثان لا يذهب، فكرة أن يبيع الكاتب كتبه، ويشتغل عليها، ويسوقها، أو أن يعمل الشعراء من أجل أمسيات وتباع فيها التذاكر، وحال ذلك حال المسارح، وحال كل شيء آخر، المطلوب منك أن تعيش متطوعا والذي لا يفعل ذلك عليه أن يتعامل مع العقيرة المتعالية من قبل المتلقي، واختياراته المترفة، وعندما يشتكي من يشتكي ويقول لماذا الحركة الثقافية في عمان خافتة؟ ولماذا يختفي المثقفون؟ ولماذا ينهار الكتاب تحت وطأة ضغوط الحياة اسأل نفسك كم كاتبا تفرغ للكتابة في عُمان؟ والذي تفرغ للكتابة أي مصير مفزع دفعه من نمط حياته، ومن سلامته النفسية والذهنية والشخصية، الكاتب بخير ما دام صعلوكا، بلا منزل، وبلا عائلة يعيش المعاناة والأرصفة، أما ذلك الذي هو بخير ويبدع ويطور مهاراته ويأخذ الكتابة كمهنة طويلة الأجل فهذا هو أوَّل من يُظلم في هذا المحفل الكبير في مسرح الحياة.

هل يمكن تزيين الواقع والحقيقة؟ أن أقول أنَّ الأمر يتعلق بعائشة وحدها؟ أو ببرنامج أمير الشعراء؟ الشعر يوضع في محك مهني وتجاري، أن يضع الشاعر نفسه في هذا الموقف لا يعني إلغاء تجربته الشعرية أو إلغاء [النص]. القصيدة موجودة، داخل البرنامج وخارجه، وحضور الشاعر جزء من سياق آخر مغاير مرتبط بمهنة الكاتب في الحياة، أو ببساطة حقه في الحياة، حقه في أن يكسب رزقه. الأمر لا يتعلق بعائشة وحدها، يتعلق بمشهد الشهر، والكتابة ونزيف المواهب والعقول بالمئات، ينعزلون، ويتركون غواية الكتابة والتي تُعامل من قبل بعض أكبر الكتاب في عمان [كهواية في وقت الفراغ]، التنظير العظيم والكبير يهطل هطولا في التغريدات القصيرة، ولكن عندما يتعلق الأمر بمبدعٍ عُماني فإن الأمر يختلف، إما أن تعيش مفلسا، بائسا، أو فإنك لست كاتبا لماذا؟ لأن الشعر هو [كذا كذا] وهُنا يقع المتلقي في فخاخ التعريف، فهو يعرِّف الشاعر ولا يعرِّف الشعر، وتأتي الإسقاطات الاجتماعية كلها دفعة واحدة بعد سؤال واحد.

أمير الشعراء هو معركة تجارية رأسمالية، هذه هي الحقيقة التي تكون [بعد الشعر] أما الحقيقة التي [قبل الشعر] فإن البرنامج لا يصنع شعراء، هذا البرنامج يصنعه الشعراء باجتماعهم، وبالتقاء المؤسسة التجارية مع الموهبة الشعرية يصنع هذا المزيج التسويقي، والربحي. هذه هي الحقيقة، والذي لا يجب أن يُظلم هو إرث الشعراء ونتاجهم وحياتهم وقصائدهم، فكل هذا حدثَ قبل البرنامج وليس بعده، لم يعلم البرنامج الشعراء كتابة القصائد، أعطاهم منصة ومنبرا وأخذ منهم المقابل وهم في الدور يقومون بالدور المقابل، ويؤدون دورهم في هذه الصفقة، الدور المهني، لا الشعري، مكان الشعر هو أن يصل والباقي هي مهنة مع جهة تقوم بتوظيف الشاعر، وشاعر يقبل بهذه الوظيفة المؤقتة، بالتسميات المتحاذقة لعالم التجارة يمكن أن تسميها [عقد على ذمة مشروع] أو غيرها من هذه التسميات كثيرة التوالد في عالم التجارة.

إن الأمر لا يتعلق بعائشة فقط، الأمر يتعلق بكل كاتبٍ عُماني. بالخروج من اشتراطات المثاليين الذين يقضون الوقت في ملاحقة تذاكر السفر، وسفرات الندوات والتمثيل، وما يأتي معها من شيك [الدعم] الخمسمائي، نعم هؤلاء ليسوا [تجاراً] وهؤلاء هم الذين لا يأخذون [مقابل إبداعهم] بينما تشق حركة المسرح، وحركة الشعر الشعبي مسارها كمهنة معترف بها، مهنة يتباهى بها من يشغلها، لم يعد أحدهم يغضب عندما يطالب شاعرٌ كبير بمقابل كبير في قصيدة في مناسبة.

الأمر لا يتعلق بعائشة فقط، الأمر يتعلق بكل كاتب عربي في عصور التسوَّل، والصعلكة، والشتات، الأمر يتعلق بالمهنة التي تسمح للإنسان أن يكمل الكتابة، والطريق، الأمر يتعلق بتحدي صنم التنظير الذي خنق الكاتب في زجاجةٍ مسدودة العنق. فلا الأمر يتعلق ببرنامج أمير الشعراء، ولا بعائشة، ولا بأي شيء آخر، الأمر هو أن كاتبا يمكنه أن يكسر هذا الحصار وأن يكون مثالا أوَّل لشعراء عُمان أن الشعر يمكنه أن يتحول إلى حياةٍ، وإلى رزقٍ وفير، وإلى نجاح يشجّع البعض على أن يحذو حذو ذلك، وأن يفهم أن كل مهنة لها سوق، واشتراطات، أما ملاحقي الخلود، والذين يريدون [المجد] بعد الموت، فهم لهم ما لهم، لقد تركوا بيننا الكثير من العدوانية تجاه الحياة والنجاح والتحقق حتى ظنَّ القارئ الظنون بكل كاتب يريد أن يعيشَ ويكسب، الكاتب المتسوِّل لا بأس به، في بؤسه، وانتظار استحقاقه، ومكانته بل وربما تحوله لاحقا إلى رقيب عتيد تجاه المبدع الحقيقي في بدايته.

يكسر هذا الجيل معادلات الكتابة والمهنة، وربما على الأقل إن استطاعت عائشة تحقيق هذا اللقب، إضافة إلى التأجيج الجامد والمكرور لماهية ما هو [عُماني] والحضور العماني الشحيح في الدول المجاورة وغير ذلك من شكاوي متكررة، أن يكسر أحدهم من جيلنا التعيس معادلة الكتابة والحياة، وقانون الكتابة كتطوع، وفتح مجالا للجميع، فإننا لن نوقف نزيف المواهب والعقول المتكرر في عُمان، بل سيعود للكتابة كثيرون ممن ظنوا أنها مرادف للفقر، والعوز، والحاجة. لعل أحدهم سيفهم أنك عندما تكتب كتابا، فمن المهم أن تسوِّق له، وإن كنت لا تجيد ذك فدع غيرك يفعل، بلاهات مثل [الكتاب الجيد يسوق نفسه] وغيرها، ليست أكثر من تضييع وقت، نعم الكتاب الجيد سوف يسوق نفسه، ولكنه سيفعل ذلك أسرع إن قمت بواجبك من صفقة الحياة، الكتاب يُباع لا الكاتب، وهي مهنة، ووظيفة، ويحق للإنسان أن يأخذ مقابل جهده.

لا أنسى إلى هذه اللحظة اليوم الغريب عندما طالب أحد كتاب المقالات بمقابل تجاه نشر مقالاته فأتاه الرد الغريب: كيف لكاتب أن ينزِّل من قيمته لهذا الحد!

ماذا عن ناشرٍ طمَّاع يمصُّ دمك، تعطيه كتابك ولا يعطيك ريالا واحدا مقابل تعبك؟ ماذا عن جريدة طماعة؟ تكتب فيها مجانا وكأنك موظف لدى الرأسمالي الذي يملك الجريدة؟ ماذا عن صاحب مسرح طمَّاع يطالب فرقة مسرحية بالأداء مجانا في مسرحه؟ هذا العالم تفاوض، وصفقات، وتبادل، وللأسف الشديد في فنون الإبداع، الرأسمالية هي الحل، لأن الصناعات الإبداعية هي التي ستسمح لأي مبدع أن يستمر، وأن يجدد نفسه، بل وأن ينافسَ هذا العالم المسعور بالنجاح والمنافسة والتفوق.

هل أحتاج لضرب أمثلة؟ لا أظن أنني أحتاج، لأقول أن مشهد الفيلم الواحد يكلف مئات ألوف الدولارات، وربما يكلف بعض ملايينها [الدولارات أقصد]، ليلة المسرح الواحد وإعداده تكلف الآلاف والآلاف، هذه هي الصناعة التي يعمل فيها محمد عبده، وعادل إمام، هذه هي الصناعة التي تعمل فيها فيروز، وهذه هي الصناعة التي عمل فيها محمود درويش، هل كان محمود درويش شاعرا متسولا يبحث عن من [يدعمه] بتذكرة سفر؟ هل أدونيس وغيرهم صعاليك لا يكسبون المال؟ هل كان محمد عابد الجابري زاهدا في هذه الحياة لا يأخذ فلسا من مبيعات كتبه؟ عندما أقول الأمر لا يتعلق بعائشة، ولا بأمير الشعراء، نعم أعنيها، الأمر يتعلق بمن يكسر هذه الغفلة الكبيرة المتعلقة بالكتابة كمهنة، وكنمط حياة.

 

معاوية الرواحي