بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 13 مارس 2023

عفَّان

 


 

كذب عليه أهل القرية سنين طويلة. بدأت الحكايةُ بمُزحةٍ بين أمِّه وجارتها وهن يغسلن الملابس على ساقيةِ الفلج. قالت الجارةُ وهو تشاكس أمَّ عفَّان: ابني أجملُ من ابنك، أنفه طويلة، وشعره ناعم.

سمع عفَّان أمُّه وهو تردُّ مُجادلة: ابني أحمر الشعر، عسلي العينين، أين ابنك من آيةِ الجمال التي خرجَت من بطني؟

أمسك عفَّان بالحكاية، وذهب ليدفنها أمام منزله. خرجت من الحكاية شجرةٌ كبيرةٌ كبرت واستوت على سوقها في ليلة واحدة. أدهش ذلك الناس فأطلقوا على القرية اسم [قرية الظل]. عاش عفَّان سنوات طفولته الأولى وهو يلعب في ظل الشجرة، ولأنها نبتت من حكايته فقد استولى على حق السماح لمن يشاء باللعب أسفل ظل الشجرة شريطة أن يعترف ببذرة الحكاية، أنَّه أحمر الشعر، عسلي العينين. مُنع من لم يعترف بحُمرة شعره وعسليّة عينيه من اللعب. ذهب كل الذين منعوا من اللعب ودفنوا دموعهم في ساقية الفلج في نهاية القرية.

بعد سنوات، كبرت القرية وانشغلَ اليافعون بالمدرسة الجديدة. سمح ذلك لمعلمة القرآن أن تتخذ من ظلِّ الشجرةَ مكاناً لتُعلِّم فيه صبيان الحارة. لم يكن عفَّان راضيا عن قرار أمِّه التي منحت ظلِّه لكل هؤلاء الذين لا يعنيه أمرهم. تقبل على مضض أن يعطيهم ظلَّ شجرته. أغاظَه أن يضيق وقت اللعب الذي كان يقضيه مع أصدقائه المقربين بسبب معلمة القرآن التي لم تكن تغادرُ المكان إلا قبل غروب الشمس بقليل.

دفنَ عفّان عامين أسفل الشجرة، وعندما أثمرت ثمارها البيضاء سقط لونُها على جفني معلمة القرآن، ففقدت جزءا من بصرها، وأصبحت تمشي بطيئةً وتتلعثم في الكلام. تعلَّم عفان الفلات من مكانِه في حصة القرآن، ليتسلق غصناً من أغصان الشجرة ليأكل من ثمارها البيضاء التي يشبه قوامها القطن، ويشبه طعمها السكَّر، أعجبه غياب انتباه المعلمة عنه، فعلَّق في الشجرةِ حقيبة من الجلد واحتفظ فيها بألعابه الخشبية.

 في حصةٍ من حصص القرآن سأل أحد التلاميذ الصغار معلمتها: لماذا يقولون إن شعر عفَّان أحمر اللون؟

قالت المعلَّمة: نخافُ أن يعلم عفَّان أن شعره ليس أحمر اللون، وأن عينيه ليست عسليتين فتجفُّ هذه الشجرةُ ولا أجد مكانا لأعلمكم القرآن!

سمع عفان نصف ما قالته فكمن لها في مساء اليوم التالي، وألقى حصاةً على رأسِها فشجَّه. اختفت معلمة القرآن عن ساحةِ الدرس، وعاد الصبيان إلى اللعبِ أسفل الشجرة، أما ذلك الصغير الذي سأل المعلمةَ عن شعر عفان، وعينيه فلم يعد يذهب ليلعب مع باقي أطفال القرية، ذهب باكيا إلى نهاية القرية ودفن دموعه عند ساقية الفلج.

كبر عفَّان بما يكفي لتخبره أمَّه أن أباه قد مات في الحرب القديمة. أوجعه الخبر فدفن حزنه أسفل الشجرة. كبرَ بعدها عشر سنين، وتحول حزنه إلى أشواكٍ كثيرة غلَّفت ثمار الشجرة البيضاء التي يشبه طعمها السكَّر.

بعد سنين من الحزن اعترضُ الصبية الذين دفنوا دموعهم في نهاية القرية بجانب ساقية الفلج على استحواذ عفَّان على الشجرة. جادلهم بأنَّها نبتت من حكايته. هددوه بأنَّهم إن لم يسمحوا لهم باللعب فيها فسوف يحرقونها. تجادلَ الصبيةُ طويلاً حتى قال أحدهم: نلعب عليها رهانا، ومن يفوز يأخذ ظلَّ الشجرةِ إلى منزله! لعب الصبيةُ بالعصى والكرةِ، وخسر عفّان ورفاقه. هربَ عفان من الظِّل باكيا متحسرا، أما رفاقه فعندما حاولوا دفن خيبتهم أسفل الشجرة أخفقوا في ذلك وأدركوا أن عفان هو الوحيد الذي يمكنه دفن الحكايات أسفلها.

 

دفن عفان صيفا طويلا لم يغادر فيه منزله، أما رفاقه فبعد أن أصابهم الصيف بالضجر عادوا له طالبين منه أن يقودهم في ثأرهم لاستعادة ظلِّ الشجرة. وافق عفَّان على ذلك، وذهبَ متخفيا في الليل ليدفن ضحكة أملٍ أسفل جذر الشجرة، نبت من ضحكته جذر غليظ شقَّ الأرض ليروي الشجرة من بئرٍ قريبة.

خسرَ فريق عفَّان التحدي مرَّة أخرى. هاج وماجَ وحاول أن يطرد فريق الفلجِ من حكايته. تمسك الصبية الفائزون بحقهم في ظل الشجرة فصعد عفَّان على جذعها المتين ورماهم بالحصى حتى شجَّ رأس أحدهم فذهب مغاضباً. بقي عفان فوق الشجرة وبيده حقيبة من الحصى، أما ذلك الصبي الذي شج رأسها فقد عاد ومعه أمُّه التي قذفت شرر عينيها في وجه عفان. شتمها عفَّان وطلب منها ألا تعود إلى شجرته، غضبت الجارةُ وصرخت في وجهه:

 أنا التي دفنت الحكايةَ في عقلك، شعرك ليس أحمر اللون، وعيناك ليستا عسليتين! خرجت من عينيها شرارتين، الأولى أصابت عيني عفان السوداوين، والثانية أشعلت شعر رأسه الأسود. ركض عفان والنار تأكله وعندما حاول أن يدفن الألم أسفل الشجرة اشتعلت بالنيران وسقطت على رأسه، ودفنته أسفلها.

 في اليوم التالي لم يجد صبيان الحارةِ عفَّان، ولم يجدوا الشجرة. كانت شجرة صغيرة مليئة بالشوك قد نبتت مكانها، ولم تكن ذات ظل، ولم تكن ورافة الظلال، ولم تكن بها ثمار بيضاء تشبه القطن ولم يكن لثمارها طعم جميل يشبه السكَّر.

 

 

معاوية الرواحي