بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 22 يوليو 2024

تأملات وأسئلة أولى عن عالم الشر!

 ثمة إجابات عمومية رائجة عن الشخصيات المسكونة بالشر والجريمة. لا يمر يومٌ على سينمائية المشهد النفسي دون أن تمر علينا مصطلحات مثل [السايكوباثية] أو مصطلح آخر مثل [السوسيوباثية]، مع الممايزات التي تفرق بينها، والخطوط العريضة، وقد نميل إلى اعتبار أن هذه الأحداث اختلال مرضي، وهذا ليس ما يحدث بالضرورة، المجرم قد يكون إنسان مستقرا نفسيا، عدم السواء قادم في منطقه الفلسفي في الحياة.

هذا يعتمد بشكل كبير على تصنيفك للطبيعي، وفي هذا العالم من الصعب تصنيف الطبيعي الذي هو عادةً مردود بشكل كبير إلى القيم الغربية بما فيها من فردانية، وحرية، وديمقراطية، وفي الوقت نفسه بما فيها من صواريخ تسقط على غزة، وتناقضات هائلة بين الحرب في أوكرانيا، والحرب على غزة، واستثناء إسرائيل، ودولة الفيتو، عندما أقول أن الطبيعي المتعارف عليه صعب التعريف في هذه الظروف فأنا أعني تماما ما أقول!

تصنيفات وأطر عريضة تساعدنا على التفكير، العملية النفسية، والتشخيصية سياق منفصل تماماً عن محاولة فهم أحداث عابرة حدثت من مجرمين مجهولي الدوافع! الحقيقة تموت مع صاحبها، وعلى عكس القاتل المتسلسل الذي يُمسك فيقضي ساعات طويلة مع الأخصائيين النفسيين، يتلاعب بهم، أو يحاولون الخروج منه بمعلومات يكتبونها في دراساتهم العلمية، بعض الجرائم تختفي مع صاحبها، وتختفي معه الحقيقة.

عوامل كثيرة تساعدنا على فهم نوعية الجريمة التي تحدث من قبل شخص غير متوقع! طول فترة التخطيط، الانتباه إلى أبسط التفاصيل، والأهم: السبب الذي جرفَ هذا الإنسان من عالم الإنسان الطبيعي المتعارف عليه، الإنسان الذي لا يقتل الأبرياء، الإنسان الذي لا ينتحر بالقتل، الإنسان الذي لا يحاول الرحيل عن العالم بإيقاع أكبر قدر ممكن من الضجيج والتأثير على كل المنظومات التي تحاول أن تبقي الحياة منظمة وعادلة وآمنية للجميع!

لا يمكننا بسهولة أن نلقي إطارا عريضا مثل [السوسيوباثية] فقط لأن الحدث جريمة اجتماعية، نعم هذا قد يروق لنا وقد تكون هناك مؤشرات كثيرة جدا تدل على شخص جامد، بلا عواطف، عقل محض ممتلئ بفلسفة الشر، نرجسي يخطط لخطف حياته ومنح موته معنى كبيرا ومؤثرا، كائن يريد بموته وبسقوط أبرياء أن يوجه دروسا للأمة، أو للدول، أو لمذهب، أو حتى لمدينة! هنالك شيء ما نرجسي وموغل في صناعة الموت المفتعل، ولكن هل ينطبق هذا الكلام على شخصية قامت بالفعل نفسه وهي منقادة؟ مهددة؟ تحت تأثير الخوف من الموت إن أقدمت، والموت إن تأخرت! هُنا حقا يختلط كل شيء فالإنسان المستقر نفسيا تمام الاستقرار، الذي لا يعاني من رغبات قهرية، الذي لا يعاني من غضب يؤثر عليه في حياته قد يرتكب جريمة مع سبق الإصرار والترصد، وهُنا يختلف السياق بين فهمنا النفسي له كعموم، وبين الفهم النفسي التخصصي له.
ثمة ما هو فلسفي ووجداني بل ما هو أدبي أحيانا في هذا الموت الفادح! وهي أسئلة فوق أسئلة فوق أسئلة! ولا يوجد إطار عريض يمكنه أن يجيب على التساؤلات ويضخ المعرفة في العموم المتأثر بأي جريمة سوى ردم جميع الثغرات الغامضة وبناء ملف متكامل عن هذه الشخصيات ومن ثم تَرك آلة العلم لتنفي تراكمات الافتراض عن حدث عمومي كبير.

ثمة افتراض عمومي صحيح دائما، لا يحتاج إلى مجادلة وبرهنة، وهو أنَّ الشر موجود، وأن الشر أنواع، منها ما هو بارد يخطط بجمود، ومنها ما هو حارق يشتعل في لمح البصر، ومنها ما هو نتيجة هشاشة طويلة المدى والوقوع تحت تأثير التلاعب أو التهديد، ومنها ما هو نتيجة خداع وتغرير، ومنها ما هو تكئة لشر أكبر، ومنها ما هو قادم من رؤية فلسفية تريد تغيير العالم، ومنها ببساطة ما هو انتقام نتيجة الشعور بالمهانة والحقارة، وقس على ذلك، أشكال الشر كثيرة. أما عن أي حالة فردية، فهُنا تتكثف الافتراضات العمومية وتتجه إلى تفصيل تلك الحالة منعاً لبناء كل الافتراضات المبنية على معطيات ناقصة، ولذلك هذا ما تفعله كثير من الدول بدراسة حالات الجريمة، وتداول مسبباتها، والتعامل بشفافية مع الحدث ليس لأن هذا أفضل ما يمكن فعله! بل لأن هذا ما يدرأ ما هو أسوأ من بناء الافتراضات الجاهزة والسريعة والمرتجلة والتي هي من الأساس طبيعية للغاية في غياب المعطيات التي تساعد على تكوين الرأي الأقرب للحقيقة. التعامل مع الجرائم الاجتماعية الجسيمة ليس شأنا علميا هدفه الوصول إلى الحقائق الصافية، هذا ما يفعله متخصصون متاح لهم الوصول للتفاصيل بكافة إثباتاتها، ومن مصادرها المباشرة، التعامل مع الجرائم الاجتماعية جزء منه حوض تفكير جماعي، يفتح باب الوعي بالشر وبالتالي يفتح باب معرفة طرق اتقائه، هذا الحوض الفكري ديناميكي وضمن مساهمة عمومية في أي مجتمع، هذا جزء من ضخ الوعي النقدي، والإجرائي، والوجداني، جزء من بناء الدفاعات الفكرية. قد يبدو التنصل، والتكتم، وتشتيت الحقائق شيئا مفيدا على المدى القصير، لكنه لا يصنع مقاومة للشر كما تفعل المقاربة الأخرى، الأكثر شفافية ووضوحا، تلك التي على الأقل تضع الإطار الواسع العريض ضمن التداول العام، وتمنع ابتكار السرديات ذاتي التخلق، لأن الحقيقة تهم وتعني؟ أليس كذلك؟ لا يمكنك أن تبني حلولا بناء على ما هو مشتت، ومشوه، ولا يمكنك أن تبني حلولا بناء على نظرة عمومية تُلصق صفة الفضيلة المطلقة بمجتمع أو بشعب أو بدولة، وجود جرائم اجتماعية فادحة تحتاج إلى مقاربة توعية مختلفة، ولا يوجد من يصيب في هذه الاجتهادات، سيكون هناك خطأ، من الجميع، ولكن من هذا الخطأ سيبزغ الصواب المتراكم الذي يتحاول لاحقا إلى عقائد معرفية صلبة هي التي ستصنع خطوط الدفاع الفكرية في أي مجتمع. كل ما أستطيع أن أختم به هذا التأمل المتناثر، أنَّ مواجهة المشاكل، وتفنيدها، وتحليلها، وصناعة أجيال متعطشة للنقد الفكري، وتحمل المراحل الأولى من أخطائها، وعثراتها، وحماستها، واستعجالها، وارتجالها أنفع لأي مجتمع من الصوابية المثالية التي تحمل تلك الصفة الحادة: إما تعتيم كل شيء، أو تسطيح كل شيء! ما هو الأنفع: حقا لا أدري!!! ما يبدو لي في هذه اللحظة أن وضع النقاط على الحروف هو أنفع اجتماعيا، قد أكون مخطئا! وقد لا أكون! حتى في هذه ليس لدي يقين جازم عن ماهية الصواب تجاه موضوع مثل هذا! عموما، الموضوع محير بمعنى الكلمة، عزيزي القارئ اقرأ كلامي هذا من باب التأمل، ليست لدي إجابات! لدي مئات الأسئلة لا أكثر!
سأعيد محاولة الكتابة لاحقا بعد أن أرتب أفكاري بشكل ما أو بآخر!