لي في تاريخي الرقمي تاريخ طويلٌ يمتد إلى 22 سنةً
من الإنتاج شبه اليومي. لا أظنَّ أن يوماً عُمانياً رقمياً يمرُّ بسهولةٍ دون شيءٍ
ما من مشاغب الساحة الرقمية القديم. مقالٌ عاصفٌ يجازف بالحوم حول الحمى، أو
مجادلات بطائل وبلا طائل، أو هذيانٌ مرضي بلا قيمة حقيقية، أو أيام هادئة من
اليوميات، وبين الفينة والأخرى مقال لا بأس به، يطرح قضيةً ما، وعادةٌ ما أدخر
المادة الجيدة لجريدة الرؤية، عندما أقرر أن أكتبَ وفق القالب الرصين الذي يفرضه
عليَّ المتعارف من قوالب الكتابة. تاريخٌ رقمي مليء بالأخطاء، ومليء بالصواب، وبه
من الأدب وقلة الأدب، وبه من الجيد والرديء، وبه من الصواب والخطأ، كأي إنسان،
ولكن بشكل منهمر، ويفيض بسرعة وعشوائية أحيانا، أو بدقة موجهة في أحيانٍ أخرى.
ومع هذا التاريخ الطويل، تأتي [هبْداتٌ] كثيرةٌ أتحفت
العالمَ بها، هبدات ذات الهلاوس، وهبدات ذات المؤثرات العقلية، وهبدات ذات الظنون،
وهبدات ذات الذهان، وهبدات ذات الهوس، اندفاعات كان من الخير أن تحدث في خطابي
الداخلي لكنها خرجت وأصبحت ملكاً للعموم الذي أصبح يصنع منها ما يصنع من تأويلات،
وافتراضات، بعضها حقائق وتشخيص دقيق لمشاكلي، وبعضها اختصاراتٌ فريق [المستكاودين]
بالفطرة الذين يضعون تجربة إنسان برمتها في علبة كبريت ويقررون وضع علامة (=) سهلة
توفر عليهم عناء المزيد من البحث، والمزيد من القراءة. فالحقيقة ليست مهمةً
بالنسبة لكثيرين، الحكم أهم، ولذلك، لي تاريخ طويل، من الهبدات، والأحكام التي
أتلقاها، والأحكام التي أطلقها، ولست بحاجة الآن إلى خوض حيثيات حدوث كل ذلك،
لأنني مهما حاولت لم أصل بعد إلى الخلاصة النهائية عن كل ما كان يدور!
وثمَّ من مسيرة عبثية، بوهيمية، عشوائية، وكتابة
تتدثرُ بفوضى الأدب، وعبثية حياة الشعراء، والصعاليك، وحياة أساسها الإبداع بقوة
الخيال، والانطلاق من تجارب الواقع إلى السرد، وإلى صناعة العوالم الافتراضية
البديلة إذا بي أدق بجمجمتي في جدارٍ صعب من جدران الحقيقة، وأصبح طالباً في حرم
علم النفس بكل ما به من قداسات، وقوانين صارمة! موقفٌ صعبٌ لنفساني قيد التأسيس،
وبدأ التغير في كتاباتي يظهر بجلاء، ويتابعني في ذلك مجموعة من العقول المخلصة في
النصيحة، المتخصصة في هذا المجال، وأنا بكل احترامٍ أتتلمذُ، وأجمع بين أيام جهلي
العام عندما كان علم النفس وسيلة لتأطير الأشياء، إلى علمي العام المبدئي الذي
أصبح علم النفس فيه مجموعة من المهارات، والمعارف، والمقاربات، والتعليم الداخلي،
وتعديل آليات التفكير، والبدء في النظر إلى [العلم] نفسه كمنظومة أنتمي إلى
تقاليدها، والأهم [قوانينها] والتي ليس من السهل أن أطلق حكما فردانيا عليها، لست
الآن وأنا في مرحلة الطاعة الإجبارية لاشتراطات التتلمذ، وإلزامات التجربة التي لا
يمكن الخروج من قانونها الصارم، ليس فقط من الجانب النفسي، ولكن أيضا من الجانب
العلمي الذي يملأ وجدانك بالذعر، والخوف من الخطأ، وإثبات كل صغيرة وكبيرةٍ،
وتثبيت كل تراكمٍ بصياغة محكمة وقانون بحثي عليك أن تقضي عُمرا كاملاً في تعلمه.
أحبُّ الكتابة، وعادةً ما أكتب عن عُمان، وأتقافز
من حقلٍ إلى حقلٍ، بين الذات التي أحللها، والآخر الذي كنت أصادمه قبل أن أتخلى عن
روح الصدام إلى روح الفهم والتجاوز، وعن مأساوية حياتي في عُمان بكل جدليتها،
وعلنيتها والتدمير المتعمد الذي ألحقته بنفسي وأنا في أشد معامعي اندفاعا. وشاء
الله أن يصوب قلبي إلى القضية النفسية، والتي أكتب فيها بكل حذر، أراجع نفسي،
وأسأل، وأناقش، وأستفسر، وأبحث، وأحاول ألا أضع [هبدةً] عمياء تكلفني ما لا طاقة
لي به من الاعتذار المتعب، والاعتراف المر بالخطأ. من السهل أن أعترف بخطئي، لكن
أن أخطئ في موضوع نفسي، وأنا أؤمن بالقضية النفسية كناشطٍ يأمل أن يفعل شيئا ما
خيرا فيها، هُنا خطئي لن يمر بسهولة، ليس وبعض العقول النفسية الحقيقية تقرأ ما
أكتب، ولا تخجل أن تؤنب، وأن تقرِّع، وأن تشير للخطأ بصراحةٍ لا لبس فيها.
وحدث ما كنت أخشاه، ووقعت في الخطأ الجسيم
الأوَّل. كنت طالبا في السنة الثانية، ولم أتقن صياغة مقالٍ لي، فكان من المعنى
العام أن يخلط بين الشر وبين المرض النفسي، خلطٌ لا يغتفر، كنت في مقال لي اسمه
[القتلة الذي يعيشون بيننا] أذكر إحصائية عن الحالات المثبتة إحصائيا عن الأمراض
ذات الطابع الخطر! لسبب ما، لحماقة ما، لصياغة ما، لهبدةٍ ما وقعت في الخطأ، وربطت
بين المرض والشر، وكأنني فسرت الشر بالمرض، أو فسرت المرض بالشر، وبكل صراحة، كنت
أستحق كل ذلك التأنيب، والتوبيخ العلمي الشديد. لا أستطيع وصف جسامة هذا الدرس على
نفسي، أدافع عن نفسي بأنني أخطأت في الصياغة، لأكتشف أن خطئي له عواقبٌ أخرى كانت
غائبة عن بال طالب يدخل سنته الثانية! قرصة جميلة جدا علمتني المزيد من الحذر،
وعلمتني أن أعرض أي تأملات سيكولوجية أكتبها على خبير مختص، وأن أطمئن مرة تلو
الأخرى إلى خلوها من مثل ذلك الخطأ الفادح الذي ربطت فيه بين الشر والمرض، والمرض
والشر، وكأنني فسرت الشر بالمرض، أو فسرت المرض بالشر، وكان خطئا لم أحسب حسابَه
وأنا أمر بمرحلة طالب علم النفس الذي بدأ يجد خيوطا لتأطير الأشياء، خيوطا أولى،
سيدرك لاحقا أنها ليست هي الفيصل في القضية النفسية، وأن الإطار، والتشخيص،
والأحكام إضطرارات تنظيمية في هذا الحقل، ولا تمثل روح هذا الحقل التي أساسها رخاء
الإنسان، وجودة حياته، وصحته، وسلامته، واعتبارات أخرى معقدة وكثيرة لا تختصر سوى
في كلمة [الإنسانية] ليست فقط تلك الخيرة والبناءة، ولكن أيضا، الهدامة، والمضرة
للنفس وللآخر.
كتبت عدة مرات عن الموضوع، موضحا، ومعترفا، لكنني
لم أخرج من هذا الدرس الوخيم بلا فوائد، كسرني بعض الشيء هذا الخطأ، لأنني كنت
حقاً حسن النية بمعنى الكلمة، أجتهد لأنحتَ مفهوما، أكتشف لاحقا أن هذه الفردانية
المفرطة في الأدبية، والشعرية، لا مكان لها عندما يتعلق الأمر بمنظومةٍ بها ما
بها، ولها ما لها، وعليها ما عليها، تختلف في أشياء كثيرة لكنها تتفق في شيء واحد،
أن الشر شيء، وأن المرض شيء، وأن من المرض ما يقود للشر، وأن بالشر ما يقود للمرض،
لكنهما لا يتطابقان، يتمايزان بإشارات وعلامات، واستعجال طالبٍ كان يكتب مقالا
استحق عقابَه. كُل ما أشعر به الآن هو انتماء حقيقي للقضية النفسية، انتماء
مُتعلمٍ، وطالب، يتتلمذ بلا توقف، ولا يستعجل أن يكون رأيه الخاص، ولا يستعجلُ أن
يبني اعتراضه الشخصي، ليس الآن، ليس قبل سنوات ليست بالقصيرة، وحتى وإن حدث ذلك،
لن يكونَ سوى في أشياء صغيرة، لا أظنُّ أنني سأجرؤ عن الكتابة عنها خارج السياق
المتأمل، المعترف باحتمالية خطئه، الذي يضعُ ما يضعه في سياقه، الشخصي للشخصي،
والاجتماعي للاجتماعي، والنفسي للمحتمل من الخطأ. درس لا أتمنى أن يمر به طالب علم
نفس، وأتمنى في الوقت نفسه أن يمر به في محيط أصغر من ذلك المحيط العام في مقالٍ
منشور في جريدة الرؤية، هل ستحكم صياغة كلامك بعد اليوم؟ هل ستتريث في النشر؟ وهل
ستتيقن عندما تصاب بالرمادية بين منطقتين؟ كان خطأً من أخطاء التفسير الفلسفي
للحياة، وفي علم النفس هذه [هبدة] لا تغتفر، هبدة ذات عواقب، كتلك [الهبدة] ذات
العواقب التي خرجت منها بما يكفي من الانكسار، ورممت بها ما يكفي من الانهمار
الحذر في هذا البحر المليء بالتعقيدات.
معاوية