من أسوأ الأشياء التي على طالب علم النفس التعايش معها، الفارق في الحقائق التي يدرسها، والواقع الذي يتوقعه البعض. ما الذي يدور في عوالم الجهل العام بعلم النفس؟ تدور أشياء كثيرة.
- التشخيص بالريلات: ريل في الانستجرام يكفي لكي يأتي أحدهم ويشخص الآخر بسهولة بكلمة "شخصية نرجسية".
ولا تقلق، خطأ يقع فيه كثيرون، بما في ذلك الذين يكتشفون هبدهم المبين قبل دراسة علم النفس وبعد دراسته.
تسأله: اضطراب الشخصية النرجسية؟ أم سمات الشخصية النرجسية؟
يبدا يقول لك: شخص متعالي سام للغاية.
تسأله: متعالي على الجميع؟ عدائي مع الجميع؟ سام مع الجميع؟ إلى درجة تؤثر على حياته وتسبب الضرر على نفسه وعلى غيره؟ أم شخص لا يروق لك، ولا تحبه، ولا تحترمه وتعتبر الحبة منه قبة؟
وتبدأ الأسئلة بالانهمار والهطول، ثم تكتشف لماذا الضوابط الصارمة في التشخيص، ولماذا يأخذ وقتا؟ ولماذا التشخيص ليس أهم جزء في المسألة لأن هناك فخ كبير.
ستقول بكل بساطة: هذا يعاني من الشخصية الحدية! وسلام عليكم، وبعدين؟
النفساني يسمع المشكلة لكي يبدأ بعدها في طرق المساعدة، واختيار المقاربة الأفضل، وبناء الملف المتكامل، أما أنت فترمي بالجوكر في الطاولة وتفعل ما يفعله أي جاهل: هذا مريض! وتسكت!
يعني خلاص، ارتحت كذا؟ شخصته إنه مريض؟ وخلاص، كل واحد يروح بيته، أنت قررت بريل الانستجرام الكافي إنه مريض! وماذا بعد؟ تمارس الجهل العام بكل سهولة، لأن كلمة مريض لديك هي نهاية المشوار، النفساني ينظر إلى بداية مشوار، من شخص قد يقرر أنه يحتاج المساعدة، وربما من شخص يرسل نداءات للمساعدة، وهُنا ندخل في تعقيدات فردانية كل حالة على حدة. أما التشخيص، فهو الضرورة القانونية أحيانا، وهو الإطار المبدئي الذي يحتاجه المريض/العميل، وهو محطة بداية الطريق التي قد تتغير (الطريق لا محطة البداية) مع التجربة والجهد والوقت والتطور والانتكاسات وموَّال طويل عريض مدته أطول من ريل تسعين ثانية.
مأزق القولبة والتأطير، لا يمكن النجاة منه بسهولة، يحتاج إلى تدريب حقيقي لك كنفساني، وهو من أصعب مراحل ومساقات علم النفس، وهو الذي يأخذ سنوات وسنوات لتصبح منتجا وبارعا فيه. ولكن هل يمكن إجبار الجميع على رفض الخلاصات السريعة؟ لا يمكن فعل ذلك، لأنه ببساطة لا يمكن فعل ذلك كل إنسان وإرادته الحرة وحقه في اتخاذ المواقف وبنائها سواء كان ذلك دقيق علميا أو اجتماعيا، أو لم يكن دقيقا علميا واجتماعيا، البعض يستمرئ أن يضع حياة إنسان في علبة كبريت، هل سيجتهد للبحث عن الفوارق بين مرض وآخر، ما أن يصل لارتياح أن هذا (مريض) قد قرر مواقفه كلها، تقدر تقول له (لا تفعل ذلك) لا تستطيع، تشاهد، وترصد، وتسمع، وتبني تحليلك، وتتمنى يكون صح وترجع بهلع إلى أحد المختصين وأحد زملائك وأحد الذين لديهم خبرة في المجال وتستخدم تلك التجربة [كدراسة حالة] لتبني منها خيوط استنتاج واستبعاد جديدة.
أي طالب علم نفس لا يعاني فقط من مشكلاته في الانتقال من الجهل الاجتماعي العام إلى العلم التخصصي المبدئي، يعاني أيضا من الذين يطلبون منه المساعدة، أحيانا كل ما عليك فعله هو أن تدله على الشخص المناسب، تعطيه رقم هاتف معالج، وتتمنى أن ينال المساعدة، أحيانا تقوم بدور اجتماعي مليء بالتشجيع، وألا يخشى العلاج، وتقنعه أن يذهب للحصول على المساعدة.
وأحياناً، جملة واحدة تكفيه: هذه المشكلة لها حل، ولها خطة، ولها تدريب يمكن لمعالج مختص أن يعطيك إياه، وبإذن الله ستجد الحل، بس [يحتاج لك تشد حيلك].
وينتهي الموضوع، ويكون لديك شخص متحمس لخوض تجربة الاستشارة النفسية لأنه يتوق إلى (هذا الحل) أحيانا كل ما عليك فعله هو أن تقول: لا توجد عصا سحرية، توجد عملية متكاملة الأركان وأنت أحد أجزائها.
انحياز آخر يمكن أن يحدث للجميع، هو الشعور أنَّ (إصلاح الآخرين) أو (علاجهم) يعني حياة أفضل معهم، السؤال هو: لماذا؟
تقول مقولة شهيرة: لا يزور العيادات النفسية المرضى، بل يزورها ضحاياهم.
وهذه تحتاج إلى وضع ألف خط أسفلها، لأن الشر ليس مرضا بالضرورة، واستخدام كلمة [مريض] لوصف الإنسان الشرير، والمؤذي، أو المجرم هي من أخطاء الفهم المبدئي، وأعترف أنني كنتُ أخلط بين الأمرين إلى فترةٍ قريبة تعرضت فيها إلى توبيخ حقيقي من أحد المعلمين الرئيسيين لي في مجال علم النفس. درس موجع لكن كان يجب أن أخوضه. الشر شيء، والجريمة شيء، وما يعتبر مرضا شيء آخر مختلف تماما، قد يتقاطعان، لكنهما لا يرتبطان ببعضهما البعض بانطباق تام.
ونستخدم هذه الكلمة (ياخي هذا مريض) وينهار السياق، وما الحاجة من الأساس لسياق في الكلام العادي، السياق يحضر في منطقة أخرى لكل كلمة فيها ألف حساب. وهذا المقال لا يخلو من هذا الألف حساب، الذي هو اجتهاد طالب يحاول أن يتأمل شيئا ما في تخصصه و يتمنى بعد أن يعرض ما كتبه على إنسانٍ يفهم أن يكتشف أي خلل جوهري فيه، خلل الطالب الذي لم يتدرب، ولم يبدأ رحلته العملية، وفي حالتي، الطالب الذي من الأساس ينوي مسارا وظيفيا لا مسارا علاجيا في علم النفس.
ورطات طلاب علم النفس كثيرة، لا أستطيع اختصارها، وصعوباتها على النفس كثيرة، أصعبها عدم التدخل في حالة شخص آخر، عندما تكون قادما من منطقة الجهل الاجتماعي لديك امتيازات كثيرة، منها المحاولة، والنصائح، والبحث عن الحلول، وتخرج جزئيا من هذه المنطقة ليتخلق قانون "عرفت فالزم" ترى المشكلة، وتصمت، ولا تستطيع التدخل، وحتى لو كنت طالب شاطر وتعرف التشخيص الدقيق، لن تبوح به، ولن تخبر حتى صاحب الحالة ولو استشارك وستكرر الكلمة نفسها في كل وقت: "ثمة حلول لهذه المشكلة، ابحث عن المعالج أو المستشار النفسي المناسب"
أنت ترى ملامح اضطراب الشخصية الهستيرية، لكن ما أدراك؟ صناعة إطار غير ملزم لحالة لم تصل لأذى كافٍ في حياتها قد يكون هو الأذى الكافي، معضلات تلطم في بعضها البعض، وأنت تبقى كالأخرس في منطقة [عرفت فالزم] وكل يوم يمضي عليك في تخصص علم النفس يحاصرك هذا القانون، ويمنعك من تكوين رأيك الخاص، وتفهم لماذا هذا التراكم العلمي الصارم، وهذه القوانين نشأت، وتتقبل انضمامك إلى النظام النفساني الكبير، وتتفهم لماذا يجب أن يكون هذا نظاما نفسانيا كبيرا. وباختصار، تتواضع أكثر وأكثر وتفهم لماذا أعظم العقول في علم النفس لا تخجل من استشارة ستة أشخاص في جزئية صغيرة.
التشخيص بالريلات، مأزق ضمن سينمائية علم النفس. وكل مرة يطلع لك [تريند] تارة الشخصية النرجسية، وتارةً اضطرابات الانتباه، ثم نعود إلى أفلام السياكوباثيين والسوسيوباثيين والذين لو صادفت واحدا منهم فقط ستفهم لماذا لا يجب عليك أن تستخدم أنموذج التشخيص بالريلات. مجددا أقول "لا يجب" لكن من الذي يجبرك على ما يجب وما لا يجب، هو مجرد رأي، يمكنك أن تأخذ منه إشارة ويمكنك أن تكمل حياتك كما تشاء.
الشيء الذي ينساه البعض، أن عملية علاج المشاكل تحدث ذاتيا، بالخبرة، والتجربة، والنمو. ما تراه إطاراً يعبر عن إنسان، هذا إطار افتراضي، مصمم للفهم، وللتأطير، وللتنظيم عمليات العلاج والتشخيص لكنه قطعا لا ينفي النمو الذاتي، والعلاج الذاتي، والتأقلم، بل وربما إيجاد الحلول الجذرية لمشكلة متأصلة في نفس فرد، ماذا ستفعل هنا أنت والريل الانستجرامي العجيب؟ ستصر على تطبيق إطارك؟
لا أعرف ما الذي سيحمله علم النفس من خلاصات في قادم الطريق، ولا أعرف ما الذي سأراه خطأ في هذا المقال، الذي أعرفه أنني سأكتب هذه التجربة وتطورها حتى نهاية المشوار، وبعدها، سأختار أي شيء سوى عالم الأمراض، علم النفس أوسع من هذا الجانب لكن لسبب ما ثمة شيء اجتماعي يجعلنا تلقائيا نفكر في جوانبه المَرَضِيَّة وننسى جوانبه المُرْضِيَة .. سبب ما أتمنى يوما ما أن أفهمه فهما علميا بدلا من الضرب العشوائي في مناطق الجهل العام وجهلي الشخصي الذي أمام سنوات لمحاربته بالدراسة.
وسلام عليكم