بناء الحدود، سؤال عويص من أسئلة نمو الشخصية. من أسئلة التجاوز، ومن معضلات التعامل مع البشر. الناس أنواع، منهم شخصيات اقتحامية بالفطرة، كذلك الرجل الذي تلتقي به للمرة الأولى فيسألك كم راتبك؟ وأين تعمل؟ وماذا تفعل في وقت فراغك؟ وما علاقتك بفلان!
وجود الشخصيات الاقتحامية شيء، التعامل معها شيء آخر. والمعضلة هي ما هو واجبك تجاه نفسك، وما هي الحدود التي يجب عليك بناءَها لكي لا تدخل في حالات من القلق الشديد لأنك لم تحكم بناء المحيط الذي يضمن لك عدم اقتحام شخص لمساحتك، أو دخوله العفوي وهو يظنُّ أن الأمر لديك "عادي جدا" هذا يحدث كثيرا، ويتكرر، ابتداء من فرد عائلتك الذي يظنُّ أن أخذه لمفاتيح سيارتك وذهابه بها لمشوار سريع شيء "عادي لديك" لكن في الحقيقة أنتَ في داخلك تشعر بالغيظ، لكنك لا تتصرف، وبالتالي تصنع لنفسك قلقاً لاحقا قد ينتهي بك إلى توتر لا داعي له.
ليست مهمتك تغيير طبائع الآخرين، الإنسان الاقتحامي سيبقى هكذا اقتحاميا، سواء زميل عملك الفضولي الذي لا يتوقف عن توجيه الأسئلة الخاصة، أو أخوك الذي يأخذ ملابسك الرياضية بدون إذنك، مهمتك أن تبني الحدود الواضحة بينك وبين الآخرين. هذا واجبك تجاه نفسك، ولكن السؤال! ماذا عن العلاقات التي من الأساس كانت الحدود فيها غير واضحة، وقطعت شوطاً طويلا للغاية بهذا الشكل.
هُنا تأتي المعضلات، أن تبني حدوداً متأخرةً قد يشعر البعض أنك تغيرت عليه، وأنَّك صرت لا تعبأ به، وربما أخوك الذي لم يعد يجد مفتاح السيارة مرميا في الرفوف التي بجانب باب البيت الكبير أصبح الآن يشعر تجاهك بمشاعر من الغيظ، من الاقتحام يأتي الاستحقاق، ومع سحب الاستحقاق تأتي ضغينةٌ صغيرةٌ قد لا تكون مهمة للغاية، لكنها لا تخلو من شعور بالحرقة! هو نفسه ذلك الزميل الفضولي في المكتب الذي كنت تحكي له عن سفرك، وتحكي له عن مغامراتك في عوالم الطيران الشراعي ثمَّ فجأة شعرت أنه إنسان اقتحامي، لا يحترم الحدود فنكصت على عقبيك وتوقفت عن تلك الثرثرة الزائدة عن الحد.
لا يحل كل شيء بالثورات، والصدامات، والكراهية، والحساسيات المؤبدة، بعض الأشياء تحل بالوقت وبالتفاهم. أن تصنع حدوداً هذا من واجبك تجاه نفسك، قبل أن تلوم الآخرين، قبل أن تصنع كمية كبيرة من الشماعات التي تعلِّق عليها مسؤولية اختياراتك. وهو جزء من النمو الدائم للشخصية، جزء من عملية الإصلاح والترميم، ولا يتوقف، وحتى هذه الحدود التي تبنيها، تحتاج إلى إحكام دقيق، هل هي حواجز؟ أم حدود؟ هل هي مرئية ومتفق عليها؟ أم هي واضحة من طرف واحد؟ هل تبوح بها؟ هل تقولها؟ هل تضعها في مقدمة العلاقات، ولا سيما تلك العلاقات الرسمية كمحيط العمل؟ أو تلك المؤقتة التي تحدث في التعاقدات التجارية.
وللحلول مشكلات، وليس من السهل إن كنت إنسانا ذا طبيعة عاطفية مليئة بالبوح، وربما لديك مشكلة في السعي لإرضاء الجميع، وفوق ذلك تاريخ ما من الصدمات، والفقد، ولنقل الحدية في التعامل، كل هذه عوامل تجعل بناء الحدود أمرا عويصا عليك. هُنا يُحمد العلاج النفسي، ليس لأنك مريض، لكن لأنك بحاجة إلى إرشاد يخبرك، لماذا كنتَ تتنازل عن حدودك؟ ومتى تتوقف عن بنائها؟ قد تصل إلى هذه الخلاصات بنفسك، وقد تأخذ جلستين مع الأخصائي النفسي الذي سيشرح لك الطريقة الصحية لبناء الحدود، وقد يدلك على المقال الذي تحتاج إلى قراءته لتعرف، أن بناء الحدود ليس أمرا معقدا، وليس تحديا عويصا، وأن تدريبات متتالية على التعايش مع الظروف والمواقف قد تجنبك ذلك الحرج، ولا سيما إن كنت أنت الشخصية الاقتحامية، التي تتعرض لمواقف محرجة، أو التي تبقى دائما في حالة من الضيق الشديد وتتساءل: لماذا لا ينصفني الناس!
بناء الحدود يبدأ من إدراكها، ومعاملة الآخرين بها، يبني حدودك تلقائيا، هذه بداية جيدة، ومنها تتكفل التجربة بتجويد تصرفاتك التي كنت تظن بهلع أنَّه لا يمكنك النجاة منها حتى كدت أن تضع علامة [=] لتقول أن تصرفاتك تلك هي أنت!
كل ما يمكن تغييره ليس أنت، هو أنت في مرحلة ما، وثمة [أنتَ] جديد دائما تسعى إليه، وستبقى دائما تسعى إليه حتى تحقق أفضل نسخة ممكنة تسمح لك الحياة أن تكونها.
معاوية