قبل عامين من الآن:
مهموم. لم ينم معظم الليل. يفكِّر بلا توقف. الساعة الثانية صباحاً، والفجر
يقتربُ. يبحثُ في الهاتفِ عن صديقٍ يطوي ساعات الليل. مهموم آخر ربما! إنسانٌ يؤنس
وحشة القلق. يردُّ بجملة: أنا سهران! ويحدث اللقاء.
أشرحُ له بضيق بالغٍ ما كنت أسمِّيه "لعنة الشهادة" يقترحُ لي
الحلول العديدة، والجامعات التي يمكنك أنْ تنجز فيها هذا الشأن، شأن المؤهل. يستفسر
مني عن السبب الذي يدفع بي إلى التفكير الملح في هذا الأمر، ألم تؤسس مشروعك
التجاري؟ ألا تكسب مالا لا بأس به؟ لماذا يشغلك الموضوع؟ أشرحُ له باستفاضة، عن الفرص
التي تضيع، وعن الدهشة التي تعلو وجوه البعض عندما أجيبه عن مؤهلي "الثانوية
العامَّة" وكأنَّ صدمةً ما تعلو الوجوه، واستغرابا عن خيارات حياة هذا
الإنسان. أشرحُ له ووجهه يتلوَّن معي، ويتفاعل مع همومي التي كنت أغدقها عليه بلا
توقف.
يصمت الحديث، يفهم معي الخلاصةُ التي وصلتُ لها. أشرحُ له موضوع التخصص،
إلى متى سأبقى أتنقل بشكل عشوائي بين المعارف؟ أقفزُ من فضولٍ إلى آخر، ومن حقلٍ
إلى آخر. أخبره عن شغفي القديم بعلمِ النفس، والسنة التي درستها من قبل، والطمأنينة
التي وجدتها، وبعد العودة لعُمان، الأسئلة المحيرة تعود، ولا أعرف كلية تقدم هذا
التخصص إلا كلية واحدة! هذه الكلية التي أدرسُ فيها الآن. يفكرُ معي، ويقول بهدوء:
يبدو أنك حسمت قرارك، وحسمت اختيارك، لماذا تؤجل البدء؟
أجيب بلغة المسلم بالأمر الواقع: أربع سنوات! ثلاث على الأقل مع معادلة
المواد! والآن! في منتصف كل هذه الأشياء الجيدة التي تحدث، وأذهب للدراسة؟ بما
فيها من التزام، وما فيها من انشغال بالحضور، وأيضا بما بعد الحضور؟ قرارٌ كبيرٌ،
ولا أعرف هل أتخذه أم لا! حسبتُ أنني حسمت الأمر من قبل، وأن أبقى متعلما ذاتياً طوال
العمر الباقي، ما بالي وبال الجامعات، والحضور، والغياب، وفي هذا العُمر!
ينفق ساعتين في إقناعي، أنَّ الوقتَ سيفوت هكذا أو هكذا، يتحمَّسُ في الشرح،
يخرجُ من الخطاب الذي يوجهه لي إلى خطابه الذاتي، وكأنه يكلِّم نفسه، ثُمَّ في
نهاية الحديث، قررتُ أن أبدأ السعي، واقتنعت بكلامِه، ولكنَّ كلامه لم ينتهي. يقول
لي: إن بدأت، سأبدأ معك! ما أن تتيسر ظروف عملي التجاري، وتمنحني الوقت! العمل
التجاري! يمنحك وقتا! وهمٌ كنت أؤمن به ذاتَ يوم حتى لقنني هذا الذي يسمى
"عالم البزنس" الدرس وراء الآخر، وقت! في التجارة! لا بد أنَّك واهم،
وتصدق هؤلاء الذين يقولون لك "ستكون أنت مديرك" سيكون العمل مديرك،
واحتياجاته هي سيدة قراراتك، وقته هو الذي يحدد وقتك، وهذا ما حدث لصاحبي الذي
أقنعني أن أبدأ بإجراءات التسجيل، ووعدني أن يبدأ الدراسة معي.
أسجل في الكلية، أطوف إلى جميع الجامعات التي درست فيها، أجمع المواد التي
درستها بنجاح، أعادلُ المواد، أستبشر خيرا ببداية مرحلة جديدة، ليست فقط طريقا
للمؤهل الجامعي، هي أيضا طريق للتخصص، واختيار المجال الذي أقضي فيه بقية العُمر.
أعود إلى صاحبي: ألم تقنعني أنت نفسك بأنَّ الدراسة لا مهرب منها؟ أين أنت؟
يجيب: لم أجد وقتاً بعد! عسى في الفصل القادم!
مزحة الفصل القادم، هذه التي حضرت في كل لقاءاتنا بعدها، وابتسامة الحرج
التي تعلو محياه. متى ستسجل؟ الفصل القادم! وهكذا دواليك. ويمرُّ عامٌ كاملٌ.
أحكي له عن عالم الدراسة الجديد، وإمكاناته، ومصادره، ونحن الذين درسنا قبل
سنواتٍ طويلة عندما كانت المعلومة شحيحةً، ولم يكن هناك إنترنت، ولا شاشات لمس، ولا
هواتف يمكنها أن تحمل تطبيقا به كل المواد الدراسية، كل شيء تغير. في كل لقاء
أذكره بوعده: أقنعتني أن أكمل دراستي، ووعدتني أن تبدأ أنت أيضا، أين أنت. ابتسامة
الحرجة التي كانت تعلو محياه أصبحت ابتسامة حسرة: أنتظر عملي التجاري أن يسمح لي
بالتنفس!
لم أعد أعبأ بعملي التجاري، ولا بالمكاسب المالية، ولا بالإعلانات، ما أن
يتوفر ما يكفي لاستدامة الحياة الكريمة لي ولأسرتي، كل ذلك المال الزائد غير مهم،
المهم هو ساعات الجلوس إلى علم النفس، إلى اكتشاف البحور الجديدة التي أمامي، إلى
الإصغاء إلى النداء النفسي الذي سأذهب إليه، تتغير الخطط، ويمر الفصل الثالث، وأنا
أسأل صاحبي: أين أنت يا رجل، لقد توقفت عن إخبار الأصدقاء أنك من أقنعني أن أبدأ
في التسجيل، أخبره عن حصولي على معدلٍ عالٍ، وعلى وجود اسمي في لوحة الشرف في
الكلية، والذي أصبح في وجهه هو شعورٌ آخر، بأنَّه تأخر كثيرا، ثلاثة فصول، وهو
ينتظر السانحة التي تسمح له أيضا بالعودة للدراسة.
ويمرُّ عامان، وأقطع نصف المشوار، بقيت ثلاثة فصول، وبعدها! ماذا؟
"أتخرج" لم أعد أذكر الصديق بعهده ووعده، أن نعود للدراسة الجامعية
معاً، لم يخلُ اللقاء من الشعور بالخيبة، وضياع الوعد، وفوات الوقت! وقبل أسبوعين
تحديداً، يتصل بي: لقد سجلتُ!
نعم! سجلت أين؟ سجلتُ في الكلية!
هل تتحدث بجدية؟
نعم أتحدث بجدية تامَّة!
أي اتخصص اخترت، يبتسم: التخصص الذي اتفقنا أن ندرسه معا!
وكأن الحكاية تكتمل! أن تنقلب الآيات، أن تصبح أنت السابق للشخص الذي شجعك
على الدراسة، وأن تدين لصديقٍ ما بلحظة إيمانٍ بك، وتشجيع لك، يحثك حثاً، ويتصل بك
ليسأل: هل سجلت؟ هل ستنطلق حقا؟ عامان من الانتظار، وتتحقق النبوءة، ويصبح زميلاً،
وأجد صديقا عزيزاً يكمل معي عامين في هذه الكلية التي أحبها بشدة، وهذا القسم الذي
كل يوم يدهشني، كما يدهشني هذا الحقل العلمي بقدرته على إحداث التغيير. لم تعد
الحكاية مجرد تخصص، وشهادة، أصبحت الآن حكاية أصدقاء، قطعا على أنفسهما وعداً،
والآن يكملان تلك الخطة الصغيرة التي نشأت وتبلورت في واجهة الماء في القرم،
وأصبحت اليوم نصف مشوار، وذكريات لعلنا حين نتجاوز أعوامها، سنقول: لقد اتخذنا
القرار المناسب. وفقنا الله في طريق العلم، وأنار لنا الطريق، ورزقنا أن نكون نافعين
لأنفسنا، ولأهلنا، وللناس.