لا أعرف لماذا أشعر أنني ملزمٌ اجتماعيا بكتابة شيء ما عن هذا الإنسان
العُماني. ولأنَّ ملفَّه لا يخلو من الإشكالية المتعارف عليها في المحيط العُماني
أضطر في البداية إلى وضع بعض النقاط على الحروف. ما أكتبه لا يتدخل مطلقاً في
الموقف الرسمي مع أو من أو تجاه، أو ضد سعيد جداد. لا أتدخل لأنني لا أعرف، ولا
أريد أن أعرف، ولا أريد أن أتدخل، ما أكتبه يعبر عن فردٍ عُماني يكتب عن أخٍ له في
المجتمع، وفي عُمان، وفي الإسلام، وفي العروبة، وفي أيامٍ جمعتنا، وطائرة عُدنا
فيها إلى وطنٍ واحد، أكتب لهذه الاعتبارات، ولذلك فإنَّ من يحاول إخراج أي حرف
أكتبه عن سعيد جداد عن سياقِه الاجتماعي فهو إنسانٌ يعتدي على حقي القانوني في
حرية التعبير تحت إطار القانون، وهو إنسان يكيدُ ويستخدم الضغط على الآخرين لتبني
موقف ليس موقفهم. هذا ما وجب توضيحه في البداية حفظا لسلامتي، وأيضا بُعدا عن أية
مجادلات تُخرج السياق الاجتماعي الذي أوطّن في نفسي عدم الخروج عنه مهما كانت
الضغوط محتفظا في حقي في الدفاع عن نفسي في حال قام أحدهم بالاعتداء المتعمد على
هذه الحقوق أو أخرج ما أكتبه عن سياقه!
قبلَ كل شيء، سعيد جداد الذي أعرفه والجانب الذي أعرفه عنه هو جانب مختلفٌ
جذريا عن ذلك المرتبط بسياقات التعبير الرقمي، يرى البعض (سعيدا جداداً) رقمياً
ويكون ما يريده من تصورات، وأنا أرى (سعيد جداد) مختلف عرفته في زمن الغربة
والتقيت به مرارا وهو إنسانيا شخصٌ دمثٌ للغاية، وخلوق، ويشهد بذلك من تعاملَ معه
عن قرب، وهذا هو الجانب الذي يدفعني للكتابة مجددا عنه، شعوري بالأمل أنَّ الحلَّ
موجود، وأنَّ من أفراد المجتمع وأبناء هذه البلاد الغاليةِ علينا من يمكنه أن
يتدخلَ اجتماعيا ليوصلَ هذا الاحتدام غير المتوقع في الأحداث إلى برِّ أمانٍ
مُطمئنٍ لإنسانٍ أتمنى له أن يعيش الباقي من عُمره في هدوء وطمأنينة وسلام. هل
هناك سعيد جداد آخر لا أعرفه؟ لكنه مجدداً يقع ضمن إطارٍ ليس من مهمتي، ولا حقي،
ولا واجبي، ولا وظيفتي، ولا وضعي الذهني، ولا حالتي النقدية لأتدخل فيه. لكن ماذا
عن ذلك اللاجئ الذي عاد معي في طائرةٍ واحدة مسلما أمره وشأنه إلى بلاده؟ وواثقا
كل الثقة بها؟ هذا موقف في حد ذاته ينمُّ عن الروح العُمانية التي به، من الصعب أن
أشرح آلية تكون الغضب الداخلي، والتعبير عنه لغويا، وانسياق الإنسان مع هذا السياق
الذي يمتد لسنوات، لكن يمكنني أن أشرح صعوبة التخلي عنه، والبدء في حياة جديدة
مبنية على روح الاندماج مع المجتمع، والتعايش مع الممكن من الحياة فيه، فهامش
الممكن من الحياة دائما متاح، في كل مكان في الدنيا وحتى في أصعب الظروف ثمَّة
هامش للحياة، والإنسان واختياراته هو الذي يحدد هل يعيش في تلك المساحة أم يسعى في
طلاب المساحة التي ينشدها، هذه قرارات فردية وكل إنسان يتحمل عواقب اختياراته.
إنه شيء يحزُّ في النفس ويحزن القلب أن يوجه إنسانٌ نداءً علنياً حول منعه
من السفر. الذي يحزُّ في النفس حقَّا هو الصمت الاجتماعي الذي وصل به الحال إلى
تجاهل هذا الحدث برمَّته. هل جئت لأكتب في هذا المقال رأيا في هذا الإجراء؟ كلَّا،
لأنني لا أعرف الحيثيات، لكن هل أكتب عن المحزن في ذلك الصمت؟ نعم أكتب، لأنَّ
التحيزات التي بنا قد تصل بنا أحيانا إلى تجاهل الزاوية الإنسانية واعتبار الإنسان
(ملفاً) من الملفات! ونحن كبشرٍ من العُموم من المجتمع من المستغرب للغاية أن
نتعامل مع إنسان آخر بهذه الطريقة، فنحن لسنا في سياق رسمي يحتم علينا النظر في
الإجراءات الرسمية، ولسنا وكلاء نيابة، ولسنا قضاةً لكي تكون موضوعيتنا إجرائية
بحتة! نحن بشر، من المحزن أن ترى نداءً لإنسان يقول أنَّه منع من السفر فيصمت
الجميع لماذا؟ لأنه سعيد جداد! ذلك الذي قال كلاما يكرهه البعض، ذلك الذي يتبنى
بين الفترة والأخرى سياسة (المغايظة) وربما لأنه الإنسان الذي نحيطه بالظنون
والشكوك والتي إن صدقت وإن كذبت ليس من دورنا الحكم تجاهها، الأخذ بالظاهر جزء من
تبرئة الذمَّة، ويحزنني حقاً أن يمرَّ ذلك النداء على قلوب كثيرة فيعتبر هذا كله
طبيعياً. على الأقل فليفكر ولو شخص واحد في حلِّ ما لوضع هذا الإنسان قبل أن
يستفحل الحال ويقود إلى مآلات يمكن تجنبها بالكثير من التعاطف الإنساني، والقليل
من المبادرة الاجتماعية.
هل من واجبك أن تساعد سعيد جداد؟ كلا طبعا، هل أنت ملزم؟ كلا طبعا، ولكن هل
بإمكانك وبمقدورك أن تساعده؟ تساعده على ماذا؟ على أن يصل إلى حالةِ استقرار
اجتماعي تزيح سنوات وسنوات من حياةٍ سابقة. يمكنك أن تتنصل تماما منه وتقول (بلاه
ويستبلى به) وهذا من حقك، ويمكنني أيضا أن أقول متعاطف معه وهذي حقي الاجتماعي،
لكن ألا يحز في النفس ذلك النداء المدوي ونصمُّ آذاننا عنه بحجة أنَّه إنسان لا
يروق لنا؟ أعيد وأكرر ما قلته من قبل، ولكن الآن بعد ظهور مؤشر جديد أقلقني شخصيا
على شخص أعتبره صديقاً وأخا حتى وإن لم يعتبرني بالصفة ذاتِها، أنَّ وضعه هذا
الإنسان أصعب من الاندماج بذاتِه وبنفسه، عُمراً، وتجربةً، وخصوصيةً ثقافية
واجتماعيةً من الصعب أن يفعل كل ذلك وحده. ولمن أوجه هذا النداء؟ مجدداً إلى أي
شخص لديه تأثير اجتماعي كبير، إلى أي إنسان ينظر لسعيد جداد من زاوية التعاطف
الإنساني، إلى أي إنسانٍ قد يتحقق لديه شعور بفعل الخير إن يسَّر أمر هذا الإنسان،
وساعده، ووقف معه، وأعانه على نوعية حياةٍ أفضل وأجمل في بلاده التي عاد إليها
باختياره وقناعته. سعيد جداد يحتاج إلى إنسانٍ مثل هذا، لصيق بمحيطه. ليس سهلاً أن
تندمج في المجتمع بعد مسيرةٍ طويلةٍ للغاية من التنفيس عن الغضب، وبغض النظر كانت
أسباب هذا الغضب وجيهة أو غير وجيهة، نحن أمام إنسان قضى سنوات كافية لجعل اندماجه
مع المجتمع الكبير أصعب وأصعب، ولوضعه خصوصيات كثيرة لست بصدد سردها الآن. من أراد
أن يتنصل من سعيد جداد فهذا حقه، ومن أراد أن يدينه فهذا شأنه، ومن أراد أن يساعده
وأن يقف معه فهذا هو الوقت الذي يُحسب في موازين الخير والفضيلة. لسعيد جداد من
يحاسبه، ومن يعاقبه، وقانون يحميه من الخطأ، ويردعه عنه وهذا السياق ليس بيدي وليس
بيد كثيرين التدخل فيه، ولكن أيضا لهذا الإنسان من يتمنى له الخير، ولعله الآن
الوقت المناسب لكي يبادر ويمد يد العون لأخيه.
لا أعرف حقا سبب اختفاء حساب سعيد جداد من تويتر، وخشيت أن أرسل له رسالة
فأجد ردا يؤذيني، أو يعاملني معاملة الإنسان الذي يريد أن يكيد به، وكم أخاف ثم
أخاف أن يكون هذا الذي أكتبه يسبب الضرر له. أتمزق بين الموازين ثم أقرر أن أكتب،
وأقول في نفسي لعل ما يكتبه لاجئ سابق، عاش ما يشبه تجربته قد يقنع أحدا بهذا
الرأي الذي لا أرى صوابا غيره، أنَّ الإجابة اجتماعية، وتحتاج إلى مبادرةٍ خارج
إطار الواجبات، مبادرة غير ملزمة، وتعاطف عالٍ، ونزعة حقيقة للمساهمة في جعل حياة
إنسان آخر أفضل وأجمل. لا أعرفُ أين هو سعيد جداد، وستكون هذه المرَّة الأخيرة
ربما التي أكتب فيها عنه، ولو شعر هو، أو شعر أي فرد من عائلته أن الذي أكتبه يزيد
الأمور سوءاً فأعلن اعتذاري مقدما، وسأحذف كل شيء، لكن إن كان الذي أكتبه قد يصل
إلى أي إنسان مؤثر في المجتمع، هذا الإنسان أحوج ما يكون إلى الغوث، وإلى أناسٍ
ينظرون خارج منظور التحيزات، وإلى أشخاصٍ لديهم القدرة على تقديم اليمين المساند
الذي يأخذ به الأخ مع أخيه. لم يفت الأوان بعد، لعل قليلا من المبادرة الاجتماعية
هي الورقة الناقصة من البداية، لعل بعض الأفق الاجتماعي، يساعده على النظر بروح
التجاوز والاندماج، لعل بعض الغفران والتجاوز يجعل من حياة إنسان آخر أجمل. لماذا
أكتب هذا المقال؟ لأني سعيد جداد أخي، وأعتبره صديقا لي وإن لم يعتبرني صديقا، ولا
أتنصل منه، ولقد وقف معي بالنصح مرارا، والذي لا يعرفه كثيرون أنَّ كان الإنسان
الأوَّل الذي استشرته في أمر عودتي، وبارك هذه الخطوة مع أنَّ ملفه لم يكن واضحا
وقتها، ولا عودته كانت منظورة وقتها، سعيد جداد الآخر شخص لطيف للغاية، ولعل سعيد
جداد المُعلن قد استحوذ على سعيد جداد الحقيقي حتى أصبح من الصعب على الشخص
الخارجي التفريق بينهما، أنا يمكنني التفريق، وغيري يمكنه التفريق، ولعل هذا
النداء هو الأخير الذي أوجهه بنية صادقة في أن يجد هذا الإنسان من يعينه وييسر
أمره، الأمر ليس مستحيلاً، وليس سهلا، هو ممكن. إن وصل هذا المقال لإنسان يحب أن
يساعد الناس وأن يقف معهم أقول لك: عاش هذا الإنسان ما يكفيه من الحياة الصعبة،
الإجابة اسمها "مجتمع" وهذا يكفي لإسناد إنسان، ولوضعه في رحلة التجاوز
والطمأنينة بعد سنواتٍ كافية من القلق، والغضب، وغيرها من الترسبات التي لن تزول
بين يوم وليلة. لا أقول أن أحدا ما مسؤول عن الوضع الذي آل إليه حال هذا الإنسان،
أقول أن مبادرة خيرةً تحمل روحا اجتماعيا مليئة بالغوث والتجاوز قد تكون هي الورقة
الناقصة. لا أظن أن لدي شيئا آخر أقوله عن حالة هذا الإنسان، يسّر الله أمره،
وحماه، فإن كان ظالما فكفَّ الله شره عن نفسه والناس، وإن كان مظلوما رفع الله عنه
الظلم، وأعانه، وأغاثه بقدرته قبل قدرة الناس. هذا ما لدي، والله غالب على أمره.
معاوية بن سالم بن حميد الرواحي