كيف التاريخ يكرر نفسه! ودائرة المراهنات، والتوقعات، والتطلعات، والاحتقان ..
درس لمن كان يظن أن الحياة تجربة ذهنية في المقام الأوَّل، وعبرة وعظة لكل من لم يفهم الدائرة الأولى للتاريخ المصغّر.
الأمل، وهمٌ ثمين وأنت تعيش كل هذه الإحباطات العامَّة وكأن إحباطك الشخصي لم يعد كافيا!
اختلفت الوجوه والأسماء، أما الخطابات فهي نفسها، الثوري والوطني، الممانع والمعارض، والذي في الخارج والذي في الداخل، الاحتقان العام، والورطة الجماعية، الظروف الاقتصادية، كل المؤشرات كانت تحدث لشهور وشهور، وفي النهاية حدث ما كان يتوقعه الجميع.
ما المدهش في هذه الحياة؟
لا شيء!
ولعبة الاستحقاق هي أسوأ ما يمكن احتماله، فهناك من يستحق تسمية الفلان والعلان بالوطني، وهُناك من يستحق تسمية الفلان والعلان بالخائن، وخطاب المؤامرات، ونضال الأسماء المستعارة، والهاشتاقات، كل شيء مهم ما عدا ذلك المكسور الذي دفعته الظروف للخروج إلى الاحتمالات المهجورة!
هل يعلمُ المهاجرون للاحتمالات العصيّة الحقيقة؟ حقيقة اهتمامنا الشكلي والترفيّ بهم؟ أن الأمر قضية حَماسة، نضالٌ من بعيد ومعظم من فيه يريد الأمان قبل أي شيء، من كان من الأساس بعيدا كل البعد، ومن كان بعيدا وهو في الداخل. هل يعلمون إلى أي مدى سنخذلهم؟ وسنتخلى عنهم؟
لم يحدث ذلك بعد لكنه سيحدث، وسيعلم الوطني أنه كان أداةً ولم يعد لها فائدة، وسيعلم الثورة أنه كان في حالة زخم تفقد قوتها بعد حين، وسيعلم المحايد أنه أخطأ في حق أحد ما، وسيندم الذي تكلم، وسيندم الذي صمت، وإن مر كل شيء بسلام فالحزن هو أجمل الاحتمالات الممكنة.
الحزن أجمل الاحتمالات، إن لم ينته كل هذا إلى نهاية مأساوية، إلى عودة الحديد والأغلال، إلى صمت الأنقياء وحسرتهم. الأمل بالغد؟ أي غد؟ هل يعرف أحدكم شكلا منطقيا من أشكال الغد؟ كل شيء غائم وضبابي ومُحزن، والباقي ما سيفعله الجبناء عندما ينطقون فجأة بعد سبات طويل.
فلا نامت أعينهم!
المهرجان لم يبدأ بعد، لكنه على وشك أن يحدث، وللكلمات نصيب من الهرج والمرج، فالجبان سيصبح شجاعا، والشجاع سيصبح جبانا، كل العيون ترصد وتراقب، كل شيء سوى الحاجات والحقوق، سوى المنطق البديهي، شيء اسمه العدالة، ومسار اسمه الأمل!
كل شيء موجود ما عداهما!
الحزن أجمل الاحتمالات الممكنة! أن تسلم للحزن الباقي مما ظننته أحلامك، يمرُّ عليك الوقت وأنت في جمودك وجروحك وكسورك أكبر جرائمك أنك تحلم ولكنك غبي لا تحلم لنفسك فقط تحلم للجميع، غرقت في أوهام اليوتيوبيا، أخذك الحلم البعيد. انفردت بك الجروح والواقع يتهشم في يديك لتذروه الرياح!
وهُناك من ينتظر، من ذوي العقول المنظمة والأنيقة، ينتظر الوقت المناسب والآمن للدخول، يحسب حساب أقل الخسائر الممكنة، يحسب احتراق الفتائل الأولى في مواجهة النار، إنه ينتظر، فلم يحن وقته ولا دوره وإلى أن يحين فهو ينتظر ويتربص.
وفي الجانب الآخر هُناك من ينتظر، وفي يده السوط والعصا، ينتظر وهو يتمسك بكل ما سوّغ له أفعاله من قبل، أن البلدان لا تُحكم سوى بالحديد والنار، هُناك من ينتظر، ويتربص، ويتمنى أن ترجح الكفة لحلوله، ولطرقه، ولفاعليته التي ليست أكثر من تأجيل زمني ليلحق بأقصى ما يمكن لحاقه من غنائم.
الحزن أجمل الاحتمالات الممكنة! أن تحزن لأنك حاولت، وحلمت، وتمنيت. سيظن البعض أن الوعي يكفي لكي لا يعيد الزمن نفسه! هيهات، ذوو العقول الأنيقة يعلمون ذلك جيدا، والعقلاء يعرفون الدفاع عن مصالحهم جيدا، حتى في قلب الخسارات يعرفون المسار البعيد الآمن الذي سيذهبون إليه.
وسينفض المشهد إلى نهايته، إلى اللانهاية، إلى اللابداية. الهدف هو نقطة المكوث، الطريق إلى توقف الزمن، إلى انتظار بدء شيء ما، إلى أي شيء.
وسيعود المحمل بخيبته وانتصار إلى الفراغ نفسه. الحزن احتمال جميل أما الندم فهو أكبر الاحتمالات الممكنة!
انتهى