بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 1 يوليو 2021

عن الجلادين الصغار

 

 

 

التعاطف مع الجلاد ينشأ مع ظنِّك بأن وازعه الأخلاقي يدفعه لتعويضك عما أحاقه بك من ظلم، ولذلك تنشأ هذه الارتباطات السامَّة والخطرة، من هذا الوهم، أن الجلاد قريب منك لأنه يعوضك، بينما هو في الحقيقة يعزز أسباب سلامته، ويخفي جريمته، ويضمنُ ويدرس ويتقي ردة فعلك، أو ثورتك ضده.

للجلاد ذكاء حاد في فهم الضعفاء، وفي السيطرة عليهم، ويتطور وعيه مع تطور وعي ضحاياه، فلعبة الإيهام كلها تدور حول إخفاء نزعته الجرمية، فهو أخطأ وأذاك لأن ظروفه دفعته لذلك، دائما لديه عذر، وسيطرته عليك جزء من حمايته لنفسه، سيبالغ في قربه منك ليحمي نفسه فقط، وليضمن سلامته.

في حالة الجرائم المروَّعة مثل اختطاف امرأة لعشر سنوات وسجنها في قبو، دراسةُ الجلادين من هذا النوع واضحة وسهلة وتميل للأدب والسرد أكثر من العِلم. أما في حالة الجرائم الصغيرة، والأذى والكيد الشخصي، والحسد، والانتقام، الجلاد قد يكون مديرك في العمل الذي هدم مستقبلك لأنه يكره قبيلتك.

الجلاد مجرم يعلم ويعي الذي يفعله، منهزم أمام فكرة أنَّه يؤذي الضعفاء فقط، فهو جبان، وكذوب، ومراوغ، ولا يواجه، وقد لا تجد له أعداء مطلقا، بل وربما لا تسمعه يتحدث بالسوء عن شخص، أما أمامك كون ضحيته فهو أقوى من الحياة، وأكبر، وقادر على الشر والجنون، ويهدد، ويتربص بردة فعلك بحدة.

مع تراكم جرائم الجلاد وأذاه على حياتك تكتشف أنك في أزمة، لكنه استبقَ كل ذلك قبلك بوقت طويل. ستعيش قتالين في وقت واحد، مع نفسك التي تريد تقويمها لكيلا تتقبل المزيد مع الأذى، ومع هذا الجلاد الجاهز للبطش بك بكل ما ادخره تجاهك من وسائل حماية، تحميه منك، وتضمن له تكرار جنونه مع غيرك.

يشيع أدب الجلادين والقتلة المتسلسلين، هؤلاء الذين لديهم مشاكل مركبة تؤدي لاكتشافهم في نهاية المطاف، الجلاد الذي يؤذي الضعفاء، ويستغل حاجة المرضى للعلاج بالإيحاء، والتي تؤذي ابنة زوجها، وغيرها من الأمثلة، هذه جزء من الحياة، جزء من وعي الفرد، جريمة معنوية لا نص يدينها، ويقي منها.

بعض الجلادين يستخدمون خصالهم النفسية للتربح في الحياة، فالذي يُسقط كُل منافس له في العَمل بالإشاعات، أو بإرسال عاهرات، أو بإقحامهم عالم المخدرات، أو تلفيق التهم والرشاوي ضدهم قد ينجو ما لم يُكتشف، هذا لا يفعل ذلك لأنها متعة، وهؤلاء لا يسقطهم إلا من هو مثلهم فقط، فلا أصدقاء لهم.

بعض الجلادين وضعهم أسوأ، فإيذاء الآخرين لديهم متعة، ويرتبط الأذى في شكله الأدبي عادة بالجنس، والاغتصاب، والقتل، وهذا نادر الحدوث في الحياة النمطية، أصحاب هذا الاختلال يصعب اكتشافهم، ويصعب علاجهم، وينغمسون لسنوات في لذتهم الآثمة حتى تصبح هي حياتهم التي يخافون الاعتراف بها.

الجلادون جزء من الشر في هذه الحياة، فثمة شرطي دخل كلية الشرطة ليتمكن من إطلاق النار على سود البشرة في شوارع نيويورك، وثمة جلاد يعمل منتجا في هوليود. هذا النمط المتطرف هو الذي يشيعُ تحليله ودراسته لشيوع الاهتمام به، أما صغار الجلادين، فهم أكثر انتشارا، وضررهم أقرب من الكبار.

الشخصية العنيفة معنويا هي التي تؤدي إلى حالات الانتحار المفاجئة التي تحدث للضعفاء والمرضى. وهذه الحالات المؤسفة من الأذى هي التي تعزز في الجلاد تطوره، هي التي تعزز ارتقاءه الآثم إلى المرحلة التي بعدها، ولكل جلاد نهاية مروعة إن سمحت له الظروف، لا يكبر جميعهم، وبعضهم ينجو ويفلت.

الرغبة في إيذاء الآخرين من أجل الاستمتاع بذلك، بلا ردة فعل، ولا غضب ولا انتقام هي أقصى تجليات المرض النفسي وأخطرها. وارتباط النرجسية، مع غياب التعاطف، والاستثارة، وربما وجود الضحايا الهشة هذه وصفة صناعة المأساة الكبيرة والصغيرة، جثة في حقل، أو إنسان بائس مهزوم محطم الوجدان.

المتنمر مشروع جلاد، قد ينتهي به المطاف تافها كل همه السخرية من فلان وعلّان، أو قد يتطور الأمر فيصبح هوسا، وهذا ما تراه في قنوات اليوتيوب، عندما يتخصص أحدهم في التنمر على فئة معيّنة، ليست الفكرة ولا الانتماء الفكري السبب، الدعوة للعنف، أو ممارسة عنف اللغة، جلاد جبان بلا سلاح.

ولا أتحدث عن النقدية الموضوعية، أو الكراهية الموضوعية. الجلاد يبحث عن الضحية الأضعف ليفتك بها، ومع الوقت تتشوه معززات الحياة لديه، ومع فقدانه لقيمة الإنسان الأخلاقي، ورضاه بما أصبح إليه من جريمة معنوية تُكمل ظروف الحياة الحكاية، هل هو قاتل أزقة؟ أم جبان باسم مستعار يدعو للعنف.

التوصيفات الطبية والعلمية [السايكوباثية، السوسيوباثية] وغيرها تصف ما يعجز وعينا النمطي عن الانتباه له. ولا تستغرب أن الجلاد كثير الظن بالآخرين أنهم مرضى، بل وربما يكون بارعا في تتبع أمراضهم، يعجز عن فهم ذاته ودوافعها، فهو يؤذي الآخر من باب المتعة، والاستثارة فقط. وهذا صعب الفهم!

لذلك، فالانتباهُ هو أساس التدخل في المشكلة مبكرا. طفلٌ يخنق القطط، هذا مؤشرٌ مقلق، قد يفعل ذلك لأنه يقلد، وقد يفعل ذلك لأن الذي يتشكل بوعيه إنسان متأزم، كل المشاكل النفسية لها حل في مراحلها الأولى، تلك التي استفحلت، يستحيل حلها، ليس بعد سبع جثث في القبو، هذه مشكلة لا حل لها. كِبار الجلادين، والشياطين البشرية يعلمون ما وصلوا له، ولسبب ما يكملون حياتهم بيأس ويفقدون قدرتهم على السيطرة إلى انتهائهم في حبل مشنقة أو حكم بالمؤبد، هذا الجلاد الصغير، والجبان، والذي بقايا الإنسان الأخلاقي الذي به تؤرقه هذا ماذا يفعل بحياته؟ يعلم أنه قبيح ولكنه لا يستطيع أن يعترفَ بمشكلته، وقد تتفاقم المصيبة ويكونَ مصابا بالنرجسية، واضطرابات الشخصية، وإن أضفنا إلى ذلك سلوك عصابات، أو إدمان مخدرات أو دولة في حالة حرب فهُنا ظروف نشأة العصابات، والمرتزقة المسلحين، وغيرها من أشكال العنف والجريمة في الحياة. كيف يساعد نفسه؟ هذا الذي يعلم أنه قبيح؟ الإجابة المنطقية هي أن يعترفَ للمختص الطبي وأن يسعى لإيجاد حل لمشكلته وفي معظم دول العالم يتم حماية خصوصيته الطبية، قد يكون ذلك قد تأخر بالنسبة لقاتلٍ متسلسل لكنه ليس متأخرا لإنسان يقاوم هذه المشكلة، مثل الذي يحب الكيد لغرباء لا يعرفهم، أو لضعفاء يعرفهم فيلعب دورا في حياتهم بما يسبب لهم المرض، أو الإدمان، أو السجن، أو كل شيء غير الموت، يمكن للجلاد أن ينقذ نفسه من مصير مرعبٍ بالكثير من الإرادة والقليل من الوعي فهذه الحالات غير المركبة كمثال الطفل الذي يخنق القطط لم تذهب بعيدا إلى الحد الذي يمكننا أن نطلق جبننا البشري تجاهها فنصبح جلادين ونرفضها، وهذا ما يحدث للأسف بسبب الجهل، أو النظريات الحمقاء الحدية المغالية في المثالية والمعايير العالية، هذا أيضا جلاد صغير، وهو أيضا مشروع إنسان مؤذ أو مجرم، وهو أيضا جلادٌ باسم العلم، أو الفقه، أو الدين، أو المجتمع، أو القيم العالية والنبيلة، اعلم أنك جلاد وفي طريقك لخسارة إنسانك الأخلاقي وكل ما يربطك بالنبل والقيم البشرية التي تعزز وجودك وحياتك في هذه الدنيا كمطمئن مُسالم ما دمت تتخذ أو تساهم في قرار يؤدي إلى تدمير مستقبل إنسان لم يؤذك، أو إلى تحطيم حياة شخص في محيط عملك، أو مجتمعك فقط لأنك تكره لونه أو عرقه أو جنسه. الجلاد قد يكون رجلا يعيق امرأة بسبب عقده النفسية من حبيباته السابقات، قد يكون أكاديميا يحرمها من النجاح، وقد تكون امرأة تفعل الشيء نفسه، برجلٍ لم يؤذها ولكنها تؤذيه، وهذا ما نفعله في حياتنا العامة فنسميه [شخص معقد]، إنه مشروع جلاد، وليس بالضرورة قد تعرض للأذى كما تقول النظرية السطحية القديمة [ضُرب كثيرا فأصبح يحب الضرب]، الذي ضرب كثيرا ربما أحب أن يضرب الذي يضربه، ويحب أن يكون قويا ليدافع عن نفسه، وربما سيحب أن يضرب من هو أضعف منه، الجلاد هو مس الشيطان في الكوكب البشري، هو الشيطانُ الذي يقتل، ويسرق ويفسد ويغالي في قتل المتظاهرين ويقتل السجناء أثناء التحقيق معهم، الجلادُ يمكن أن يكون طبيبا، أو ممرضا، أو قاضيا، أو شرطي مرور، أو مدرسا، أو موظف في شركة اتصالات، يهتم العالم كثيرا بالجلادين المرتبطين بالإثارة الجنسية، وبالقتل من أجل المُتعة ولا يهتم للعدد الأكبر، هؤلاء الذين يمكنهم تدمير حياة أسرة أو إنسان بقرار ظالم، أو بإشاعة كيدية، أو ربما بحساب إلكتروني باسم مستعار يجعلون فيه حياة فتاة جحيما، أو يهاجمون بريئا ويفتكون به لأنه يؤمن بمعتقد يخالفهم، الأذى والضرر والأثر الذي يتركه الفعل هو الذي يحدد صغار الجلادين، ولأننا في هذه الحياة لا نعتبر الجرائم المعنوية شأنا من شؤون آلة الدول ومنظومة القوانين فإنهم ينجون، وهُنا تأتي مهمة الوعي وأثير الثقافة وشعاع اللغة ليكمل هذا النقص، وليصنع قطعة من نسيج الوعي تربط هذه الخيوط الهشة لعلها تفسر لنا ما الذي حدث لنا في ماضي حياتنا عندما عرفنا إنسانا بعين زائغة يبحث بجنون عن كل ما يضرنا ونحن لا نفهم ونتساءل: ما الذي يستفيد من كل ما يفعله؟ إن كان ثمة فائدة لهلع الجلاد فهو أنه قد يعود إلى وعيه ويقاوم، وإن لم يفعل فإنه قد يبالغ ويذهب للبعيد، فجلاد بسببه تم طردك من فريق كرة القدم يختلف عن الجلاد الذي سرق مالك ووضع لك المخدرات في طعامك، يجب على الإنسان في هذه الحياة أن يعرف أن الشر موجود، وأن يمايز بين أنواع الشر وأهدافه، ولهذا فإن علم النفس وغيابه عن المناهج المدرسية، والحالات الشهيرة مثل الفصام، وثنائية القطب، والوسواس القهري، ولاحقا في المراحل الدراسية المتقدمة تفصيلات التعريف للشخصيات الجُرمية جزء من وعي الإنسان الذاتي، ومسؤوليته وواجبه تجاه ذاته وواجب المنظومة العلمية والعملية لتيسر له وسائل الوعي هذه، الجلاد لا يعُرف من الدراما والمسلسلات. يقول العمانيون [الصاحب ساحب] لسبب عميق للغاية، لأن هذا العالم ليس بريئا والشك والحفاظ على مساحة أمان وارتياب معقولة ينفع الناس، على الأقل يحميهم من الجلاد زائغ العينين الذي يتلذذ بمصائب الآخرين حتى يسببها لهم، هؤلاء لهم علاج، وإن لم يطلبوا علاجهم، فثمة وسائل حماية ومواجهة توقفهم عند حدهم، هُنا دور الثقافة والوعي الأهم من ترديد المكرر الممل عن أهمية الوعي والثقافة. لا تكن جلادا، ولتكن ضحية لجلاد. وإن ابتليت بجلادٍ لا يعرف مشكلته، فاعلم مشكلتك، تعاطفك معه قد يكون أحد مشاكلك، فلا تكن ضحية.