جُنَّ الليلُ، وجننتُ معَه
بعض الشيء. عُدتُ لهذا الدفترِ القديم الذي منحته نصفَ عُمري. نعيشُ في زمنٍ عجيبٍ
أصبحَت فيه الذاتيةُ ضرباً من ضروبِ السخافة، وكأن الذي يعتبرها سخافةً ليس
سخيفاً، ليس ذاتياً، وكأن هذا العالم وهذا التاريخ البشريُّ يسيِّرُ شؤونَه بغيرها.
كبرتُ بعض الشيء على الشعور بالخجلِ تجاهَ ذاتيةِ الكتابة، أي جريمةٍ في الحياة أكثر
توغلا في الذاتية كجريمة الكتابة؟ كل شيء ذاتي، كل إنسان محركه ذاتيّ، أما هذه
المثاليات ناصعة الحَماقة أنَّ الكتابة، والأدب، والشعر كُلُّها أفعال تطوعيَّة
فهذه أوهامُ الإنسان الضائع الذي لديه الكثير من الوقت ليفكر في ضياعه. لن أبرر
ذاتيَّتي لأحد، ألم تدخل أنت لهذه الصفحة؟ يمكنك أن غضب إن أرسلتها لك مربوطةً في ساقِ
حمامةٍ زاجلة، هُنا، المكان مكاني، وهذا الليل لوحةٌ في جداري المرصِّع بنجوم
الذكريات، ونيازك الحسرة، والشموس الغائبة التي تصنع لحظة الكتابة هذه وتفتك بها
في آنٍ متماهٍ مع ضدِّه.
لم يخرجُ الزمانُ عن صفاتِه
المتأزمة، الكوكبُ في مأساةٍ ويحكمُ العالمُ فرعونٌ يسحقُ مشيئة الاعتيادي والنمطي
تحت حذائه. جنودُه الخوارزمية تتمركز في ثكناتها الدمويَّة، يسافرُ ويتغلغل في
عروق مدنية الإنسان، مشيئته هي الحاسمة الصارمة، وقراراته لا تُرد وموتاه لا
يعودون ليخبروا الناجين سرَّ الحقيقة والخليقة، فرعونُ التاسعُ عشر يحكم الكوكبَ
وينقذ الطبيعةَ من شرور الإنسان، يسحق أنانية الأحياء ويهدي القادمين في الغد
كوكبا أجمل من هذا التجمُّع البشري القبيح الذي انشغلَ بصناعة الأسلحة وترك حُلم الاقتراب
من المدينة الفاضلة إلى هذه المدن الرأسمالية العاهرة، فرعون يحكم العالم ولم نخرج
من لحظته الزمنية بعد. نعيشُ مع الذاكرةِ والحسرة ويلهينا الأمل، أما العالمُ فقد
ارتاحت دواليه، وتنفست عروقه الصعداء ففرعون التاسع عشر ربما كان الهدية التي أجلت
الدمار الكبير، لسنا في المدينة الفاضلة، ولكن ربما تأجل الجحيم سنين تكفينا لحياة
ما، لشبه حياة ما، لأي شيء غير الحسرة وتذكر الأوجاع والحياة مع الحزن صديقِ اللغو
الأليف، وحليف الروح الغامر.
عدتُ للكتابة، لا أعرف لماذا!
أجهلُ لماذا أقول عدت لها وكأن التعريف القديم هو الذي يصوّب بوصلة التعريفات،
لماذا أكتبُ يومياً؟ إنه العام السابع عشرُ! ما حدثَ عُمر، وما أشعرُ به لحظةُ
بدءٍ أبديةٍ تُكمل هذه المُتَكَوِّنات النصيَّة أمام عينيَّ، لماذا أكتب؟ من العبثيَّ
أن يُسال هذا السؤال أو يجاب عليه، أكتب لأنني أكتب، هذا يكفي دون المزيد من الحذلقة
فعادتي أن أكتب عن الكتابة، أو البقاء المجنون في سردِ وتدوين أحداثِ عُمان، العمل
التدويني الذي انعجن في دمائي حتى أصبحَ قصة وجودي، لا جديد في عُمان، لا جديد
يُكتب، المجتمع يتفاعلُ بلا توقف والثقافة الاجتماعية تقطع خطوة كل يوم وانتهى ذلك
الزمانُ الذي سئم شاكوه من العزلة الحضارية والاجتماعية والسياسية وباقي النسب
والمصادر الصناعيَّة، نحن في العصر الجديد الأحوال هادئةٌ وحياتي طبيعية في هذه
البلاد! أدوِّن ما استطعت، وما طاشَ من ذلك العبث أقضيه في العبث بالكتابة، هذه
حياتي التي أتقبلُ جنونَها مدركا أن السعادة تنبع من الداخل، وأن الرضا قرار، وأن كثرة
التشكي لن تغير مسار النهر، سأنجرفُ في أيامي حتى أموت وما دمت أنجرفُ سأكتب، لا
لشيء، ولكن هذا العُمر أقصر بكثير من أن تقضيه دون أن تكتب، عن عُمان، أو عن
حماقاتي وذاكرتي، أكتب لأنني لم أعد أتساءل: لماذا أكتبُ.
تزاحمُ عُمان أفكاري، هذه
مأساة الشعور بالأهميَّة، نرجسية الكاتب المزعجة التي تشغله عن الحيوي الأجدى. عشتُ
سنين طويلةٍ تحت سياط الكراهية حتى تخشبت مشاعري، يبدو أنني الآن لست مكروها
كالسابق، صمت كثيرون عنِّي وتوقف التنمرُ بعض الشيء ولكن الجمر في الصدور لا يحتاج
أكثر من نفخةٍ ليشتعل، هذا هو الوضع الأكثر خطورةً من ذلك السابق المشتعل بالصراع
والمواجهات، الخصمُ الناقم الصامت يتربص، وقد يظنُّ الآخرُ أنه ارتياب الشعور
بالأهمية والاستهداف، ليته كذلك، إنها طبيعة الحياة والنتاج النهائي لخيارات
العُمر التي خرجت من مسارات الحب والأمل إلى دهاليز الكراهية. هذه حياتي وما تحولت
إليه وأقصى ما أستطيع فعله هو أن أعالج أمراضي الكثيرة، وأن أواصل الخطو بالكثير
من الحذر، والمعدوم من الثقة في الآخرين، كم هو محزن أن يعترفَ صعلوكٌ قديمٌ بحتمية
الارتياب، أن تعترف بخيبتك، وأن تتذكر أوجاعَك القاسية وأنت تؤنب ذاتك، وتجلدها
بقسوة كي لا تُجن فتكرر أخطاء الماضي ونكساته. كل هذا من الماضي، والباقي منه ليس
أقل خطورة، وليس أكثر، فالخطر الخارجيُّ ثلث المُعادلة، أما ثلثاها الأفدح ففي
النفس، واحدها في الخفي منها، وثانيها في هذه الحروف التي تقول ما لا أقوله نيابة
عني، لم أعد أصف حياتي بالمأساة، ولا الملهاة، ولا الاستثنائية، ولا العادية، إنها
حياة حتمية وما دام قلبي ينبض فيجب أن أحاول وأن أقاوم، والباقي في علم الله وهو
خير الحافظين. آمنت بالله، ولا إله إلا الله.
لا أؤمن بالحبِّ كما كنتُ
أفعل كفتى في مقتبل العُمر، أحب عائلتي والباقي أدخره للقليل من الأصدقاء الذين لم
تفتك بهم ظروف الزمن. أؤمن بالكراهية، كثيرا وأقلل من شحناتِها كل يوم يمضي. أكذبُ
إن قلت أنني لا أكره، سأكذب على نفسي وهذا أخطر من الكذب على الآخرين. أكره لأنني أختارُ
ذلك، وأفضل أن أكره من يستحقُ ذلك كما أفضل أن أحب من يستحق ذلك، صفقة عادلة بيني
وبين نفسي المعذبة بالقلق. صرتُ أكذبُ أقلَّ بكثير من السابق، لا أعرف ما سبب ذلك؟
توقفت عن تضخيمِ الناقص منّي بالكذب لأدرأ الاحتقار، وعن تحقير الجميل بي لأتجنب
الغل، ثمَّة ما حدثَ منذ هجرتي من عُمان إلى عودتي وغيَّر كل ذلك، ولا أهتم للأسباب
النتيجة الحاليةُ مُرضية، كذب أقل، ضمير أكثر ارتياحا وهذا أهم بكثير من كل أوهامِ
المكانةِ ومعضلات المكان. أحبُّ هذا الذي يحدثُ من التفافٍ اجتماعيٍّ حولي، ذلك
الحب العفوي الذي يُشعرني أن الله يعوضك ما دمتَ مظلوما، ويعاقبك ما كنتَ ظالما،
لقد ظَلمتُ وظُلمتُ في هذه الحياة وها أنا اليوم في هذه الصفحة الجديدة أحاول
التمسك بتلابيب المعقول والنمطي وأعض بأسناني على حياتي العاديَّة وأيامي
المتشابهة، جزاك الله كل الخير يا من كنت سببا في كل هذا.
تغيرت أحلامي في هذه الحياة.
يرحمُ الله الإنسان بموتِ أحلامِه. لست ثائرا يريد تغيير كل شيء ولست خائرا منهزما،
أخاف من الله كثيرا أما الإنسان وكيده فأعلم أنه سيحيق بي متى ما ظلمتُ غيري، أو
ظلمتُ نفسي بالعودة مجددا إلى ولعي المهووس بتحقير ذاتي، لماذا أفعل ذلك؟ لا أعرف
ولا أريد أن أعرف، المهم أنني صرتُ أرفض ذلك من نفسي، وسأجد طريقةً ما تعيدني
لصوابي إن نسيتَ شكر الله على نعمه التي تزيّن حياتي بالطمأنينة. أصبحت لدي وظيفة
آكل منها لقمة العيش، هذا التدوين الذي قادَني لخساراتِ العُمر أصبح اليوم رئيسي
في العَمل، يصرفُ لي القروشَ التي أدفع بها إيجار المنزل، واشتري بها أحذيتي
الرياضية، لست ثريا ولست فقيرا وأعيش دروس الحياة في كل يومٍ يمضي بقلقه وهلعه، لم
أكن أعلمُ أن الحياة بلا نشاط سياسي جميلة وهادئة إلى هذا الحد! لا نظامُ تحاربُه
ولا غرباء يفتكون بك! أن أكون مهذوناً هذا قرار وجوديُّ كنت غبيا عندما ظننته خطأ.
أن أكون المهذون الأكبر هذا قرار ذاتي أعلم أنه خطأ، لكنه خطأ جميل، أحب هذا الخطأ
الاعتباطي الذي أعيشُه كل يوم. يعاتبني الغرباء، لماذا أعيش كالأهبلِ؟ أبحث عن
السخرية! وأسخر من نفسي! ما الخيط الفاصل بين جلد الذات والضحكات؟ إنها الهذونة!
ولذلك رجائي بها كبير، إنه واحة التوازن الوحيدة لإنسان لديه هذه الأزمات المربكة
في شخصيته وفي ذاته وفي هرموناته الدماغية، الضياع كل الضياع أن تعيشَ وأنت تفكر
بسلطة لسان الغرباء عليك! وإن كنت عُمانيا فمن الحماقة أن تنسى أن هذا الكابوس
يتشابُه فيه كل تجمّع جغرافي عدد سكانه قليل، لن أعيشَ في عمان التي بها ملايين
الملايين، سأموتُ في عمان قليلة السكان فلم لا أجد طريقة للتأقلم، ويبدو أنني
وجدتها، لستُ مطمئنا إلى مكائد الغرباء، هذا هو الارتياب الذي يبقى بك بعد أن تسلك
طرق الكراهية وبعد أن تشتعل العداوات في عُمرك، معارك كسر عظام لا تتوقف، وأصدقاء
ملاعين ترجو من الله أن يذيقهم شر كيدهم. عدا ذلك فكل شيء هادئ في مسقط، الزمان،
والمكان، الفيروس يسيطر على الحياة ونحن نحاولُ أن نمرَّض حزننا بملهيات الغد،
بالرجاء، بالأملِ أن أشد ما نحن فيه هو أشد ما نحن فيه. سأحمدُ الله كثيرا،
وسأكتبُ حتى تنطفئ شمعة العُمر وأرحل.
آمنت بالله
..