بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 4 يوليو 2021

ألاعيب قذارة التأويل!

 

 

ما الذي يحدث في هذا العالم؟ انقلبت سلوكيات الشرق والغرب، وتغيرت الموازين والمعادلات التي اعتدنا عليها. نشأنا في جيلٍ يمثِّل فيه اليسار الليبرالي الثورة والثورية. تحمل خطاباته المفاهيم الكلاسيكية لحقوق الفرد، وقداسة رأيه، وتضامنَ الكونِ مع سعةِ الزمان لكل رأيٍ مهما كان. اعتدنا على الصورة النمطيةِ للشرق المحافظ، الساعي للعودة للتراث والمتمترس للدفاع عن الدين والماضي والتاريخ، وذهبَ اعتقادنا إلى أن الغربَ هو العكس، المحافظُ الفرديّ المؤمن بحقوق الإنسان وسيادة القانون! نوهم عقولنا بهذه الترَّهات القيّمة في عالم الأمم المتحدة والفيتو وغزو العراق واحتلال فلسطين! وقضينا من السنوات ما يكفينا لترسيخ هذه الأوهام الظريفة إلى أن جاء هذا العصر الغريب ليغيرَ سابق تصوراتنا إلى لاحق ما حدث من صدام.

تغيرَ القامع والمقموع في العالم الغربي [الحر]، الصفة التي تجمع معظم الدول المتحدثة بالإنجليزية. تفرعنَ اليسار الليبرالي إلى حد التغوّل، وانقلبت آيات القمع. المناضل الآن هو ذلك المحافظُ، وياللغرابة!، الجمعيُّ الاجتماعيُّ القوميُّ المسيحي المتدين! وتولى اليسارُ صناعة الصواب والخطأ. وبزغ نجمع عصور الحساسية جليَّا في خطابات الغرب، فلستَ صاحب رأي فقط، أنت في حقلٍ ألغامٍ من [المشاعر] التي عليك أن تحترمها إن كنت صاحب رأي، وسواءً كنتَ يمينيا أوروبيا تحذر من المهاجرين والتغيير الذي يفرضونه على المجتمعات التي يهاجرون إليها، أو كنت مهاجرا مسلما في دولةٍ تعاني من الإسلاموفوبيا! ستطالب أن تراعي مشاعر الطرف الآخر، ماذا عن الإقناع والمجادلة! هل نسي العالم هذه الطرائف الفلسفية التي بُني عليها تفكير الصواب والخطأ في آخر عشرين سنة! يبدو أنه نسي ذلك، أنت مطالب الآن أن تُراعي كل التناقضات في العالم قبل أن تعترف إنك لا تحبُّ الذي يحدث ولا تنتمي له أو ــ لا سمح الله ــ تتهم طرفا ما بأنه مخطئ وأنك تمقتُ ما يفعله. ونحن لا نتكلم عن الشرقِ فحسب، حتى هذا الغربُ الذي ظنَّت به الأجيال الحرية والعدالة يمارسُ الشيء نفسه، أي جنون يحكم هذا العالم؟

صراع الآراء أصبح شخصيا في أزمنة قذارة التأويل. أن تنادي بحق فلسطين فالتأويل القذر يجعلك في خانة دعاة النازية، ومنكري المحارق بل وربما ستوصم بأنك شيوعيّ تكره حضارتك وتمقت ذاتك. تبادلت الحضارات صفاتها في عصر حرية المعلومة وانتصر الغوغاء دعاة المشاعر والعاطفية على أخشاب العقل المحض اليابسة! في شرقنا المتأزم، للطغيان مشاعر، وللوطن مشاعر، وللأقوام مشاعر، بل وحتى للمذاهب والقبائل مشاعر، حتى وإن لم تكن داعية كراهية ولم تكن عنصريا متحيزا، جلاد الحُكم بمشاعره جاهز لممارسة نذالة التأويل، ويصبح الأمر شخصيا بعد أن تُقحم المشاعر في شؤون الأفكار، وتبدأ الكراهية من الطرفين، حتى وإن لم يكن البادئ يتناول مسألة فكرية من منظور شعوري. يسخر بعض رواد التواصل الاجتماعي من نظرية الحريات الشخصية الجديدة ويستخدمون كلمة [أحسُّ] وكم هي فارقة في نقاش فكري، أن تقول أحسُّ. وقد يحدث أن يقول المُعترض على من يحس عاطفيا، فتصبح الأفكار هجاء متبادلا بين شعراء صنْعَتُهم الهجاء، ويصبح الموَّال جدلاً لا يتوقف عن الذي له الحق في أن يحترم مشاعرَه الآخرُ أولا، قدّر مشاعري، الدينية، أو الفكرية، أو الوطنية، أو المذهبية ثم تكلّم؟ ما لهم كيف يشعرون!

هذا العالم أصيب بالجنون، وإن لم تحدث الحرب العالمية الثالثة بسبب هذا الجنون، فلن تحدث لأي سبب آخر. أما أن تكون فردا صاحب رأي ونظرية فهذا الكلام سوف يتبلل في البحر، وستمزق أوراقه المبللة حاملات الطائرات وهي تكوّن العالم الجديد لتعيد صياغة الاحتلال، والطغيان، والاستحقاق الفلسفي الذي سيتحول مع الوقت إلى مُضغةٍ من الأحاسيس الطاغية على الذي يفكر في استحقاقها من عدمه. عالم غريب حقا!