تلقى أفكار الاكتفاء بالذات رواجا كبيراً مؤخرا. هل ذلك جزء من التعويض النفسي لعزلة كورونا؟ أم هي موجة الذاتية المفرطة في الاستغناء عن الآخر!
هذه الأفكار تشبه تلك الجبنة المعفنة التي سوَّق لها البعض كسلعة ثمينة.
ولا يوجد إنسان مكتف بذاته، نهاية العُزلة الموت، أو المرض، أو الجنون.
عالم الإنترنت يتعرض لتغيرات جذرية، عاد للواقع، وأجاد توصيل الناس ببعضهم البعض، وهذه الدعاية النفسية والفردية المُتخمة بالاستغناء والتخلي عن "الآخر" ليست جديدة، الجديد فيها هذه المعايير الحادة والقاسية، وكأن الخطأ دائما من "الآخر" وكأن الدعاية تطرح نفوسا كاملة لا تمنح فرصة ثانية!
هذه القسوة الشديدة، والأحكام القاسية [شكليا] صنعت فصاما لغويا يعزز فكرة أن التواصل الاجتماعي يتناقض مع الواقع. ثقافة الاعتراف بالخطأ، أو الإقرار بعدم كمال الإنسان وغيرها من البديهيات الحتمية أصبحت خطايا. ولا أعلم هذا الجيل الجديد كيف سيتعامل مع هذا الوضع الشرس والمتأزم!
وحيثما وليت وجهك تجد هذا الخطاب. الذي لا يقدرك لا تقدره، الذي لا يقدر قيمتك ارحل عنه! وكلها تدور حول الفكرة نفسها! هل حقا هكذا يفكر الجيل الجديد؟ الذي لديه خيارات شاسعة من البشر؟ هل أوَّل ما يفعله هو تصفيتهم! والتخلي عن معظمهم، ورفع معايير صارمة من أجل ذاته العليَّة؟
لقد اختصرها النابغة الذبياني خير اختصار:
"ولست بمستبقٍ أخًا لا تلمه على شعثٍ أيُّ الرجال المهذب؟"
هذا التفكير الاستغنائي المفرط في الذاتية فتح بابا كبيرا للتنمر، ومنح الغرباء استحقاقا كبيرا، والسبب هذا الابتعاد المتعمد عن لوم الذات، أو إدانتها، أو الاعتراف بعدم كمالها!
ونعم يحتاج الإنسان للذاتية، لقدر معقول منها، لاستحقاق منطقي يسمح له أن يحترم نفسه، وأن يعيش وأن يدافع عن نفسه ولكن هل هذه الذاتية في الزمن الجديد صحية؟ أتساءل فقط، ليس لدي إجابات! ما نهاية هذا الخطاب الرائج؟
نفوس مرهقة بالعزلة، فقدت مهاراتها الاجتماعية؟ وتخشبت عاطفيا؟
هل هي وسيلة هرب؟ هل شقاء الحياة هو السبب؟ كرم الخذلان على تجارب الحياة؟ وكأنك أمام سربٍ من الجراد العابر للقارات يفترس خُضرة الأرواح والباقي من الإنسانية في هذه الدنيا الكؤود!
هذا الاكتفاء المزيف بالذات ماذا عساه أن يصنع؟ مبدعا منعزلا؟ ربما! لكنه يصنع أيضا مدمنا منعزلا، أدمن ذاته، أو الكحول، أو المخدرات، أو أدمن العَمل حدَّ الإرهاق! الذي أجبرته ظروف الحياة على أن يعيش وحيدا يحتاج لأصدقاء، ولمحيط اجتماعي. ماذا عن الذي لديه كل ذلك ويتخلى عنه لأجل ذاتِه!
لا يخلو التاريخ من المبدعين الكبار الذين ابتلعتهم العُزلة. ولا تخلو الحياة من هؤلاء الذين ماتوا في مكاتِبهم في منتصف الليل سعيا وراء ترقية أو صفقة. كل شيء مُحتمل الحدوث عندما تضحي بالحياة النمطية [العادية كما توصف عادةً]. قد تصبح لاعب فيفا مدهش، وقد تصبح مريضا نفسيا معتل الروح.
ومن كان يشتكي من خطاب النخب، واستعلائه اللغوي على الأقل الآن ينطبق عليه [زمان بكينا منه والآن نبكي عليه]، على الأقل خطاب النخاب به شيء من الضبط المنطقي، لا يخلو من كونه [مجتمع] وإن كان صغيرا. فيروس الذاتية في الزمن الجديد يحتاج للكثير من التأمل والتفنيد، لعله الوباء القادم!
وهذه الذاتية المفرطة في الاستغناء ليست متعبة، وليست مقلقة، إنها كالغباء مشكلة للآخرين وليست مشكلة للغبي نفسه! هكذا يتحول الإنسان إلى آلة، أو أداة، أو جلمود صخري لا يشبه البشر إلا في الشكل الخارجي. أظن أن هذا هو الوباء القادم، وسيغرق العالم أجمع بمعضلات جديدة، فردية، وعويصة.
كيف تتطور الشخصيات المرضيَّة؟ والنفوس المريضة كيف تتبع هواها؟ بهذا الشكل الأعوج من الذاتية، الهروب المهووس من الاعتراف بالخطأ أو النقص. نعم هو صعب جدا أن تعترف بأخطائك، لكن إن كان ذلك صعبا بينك وبين نفسك فأنت في مشكلة كبيرة جدا، وربما أمامك حياة قاسية وشرسة مع الذين يشبهونك!
وما الذي سيحدث بعدها؟ ستجد فريقا من [المستغنين] .. [والمكتفين بذواتهم] .. كل واحد منكم منعزل وأنتم جماعة. طابع الحديث هو الذات، وإعلاء شأنها، والآخر الذي لا يشبهك هو المخطئ، هو [ما واثق من نفسه] أو غيرها من التصنيفات المعلَّبة والجاهزة ليمضغها ذهن متوهّم يصنع مشكلة مرضيّة.
ومتى ستنتبه إلى الذي يحدث لك؟ تفقد مهاراتك الاجتماعية، وربما تستبد بك الرغبة للهجرة أو الهرب، وكأن الحياة الجديدة ستحل لك مشكلاتك الداخلية. ستكابر طويلا وربما تكون محظوظا وتكتشف أن المشكلة بك، وأن الذاتية المفرطة قد شوّهتك وهشّمت تعاطفك مع نفسك ومع غيرك. ربما تنجو وربما لا!
وكلاهما مشكلة، التعلّق الشديد وقراءة ذاتك في ردات الفعل هذه مشكلة، التسامح المفرط حد السذاجة والغباء مشكلة ولكنها لا تُحل بمشكلة أخرى، بالنفور التام، والعزلة، ومعها الخواء وغياب الهدف، هذه "الذات" التي تمجدها قد تتحول إلى غول يفترسك من الداخل، ولن يرحمك بعد أن يتمرد عليك.
قد تخلّف بعض التجارب السيئة أثرها في النفس، قد تقودها إلى عبادة الذات، وتمجيد قيمتها بلا سبب منطقي. هكذا يتحول الناس إلى قساة، أحجار لا تَرحم ولا تُرحم. ألا يكره الله الفقير المختال؟ هذا ينطبق على الفقير نفسيا، الذي لا يحب إلا نفسه ويكره ما عداها. الاكتفاء بالذات وهم كبير جدا!
لم يُنعم الله على الجميع بعائلة، أو بمجتمع متماسك متراحم. لم يعش البعض حياة طبيعية، قد يولد في شارع عصابات، أو يتيما بعد قصف منزله، كل هذا يحدث. ماذا عن هؤلاء الذين لديهم كل هذا؟ ويختارون العزلة، فلا أصدقاء، ولا أقارب، وربما لا محبة مطلقا في حياتهم، هذه وصفة بلاء وهلاك!
إن لم تكن كورونا سبب كل ذلك، لعل الزمن الجديد سيحفل بوباء قادم. قافلة من الأمراض النفسية الجماعية في الطريق، والتشوهات في البناء الاجتماعي بدأت تحدث وتواصل الحدوث. الفردية مفهوم فلسفي جميل في الحروف فقط أن يتحول إلى هذا المرض الاستغنائي الرائج، ثمة أزمة في الطريق.
ربما!