عامٌ بلا لوحةِ مفاتيح! لا أعرفُ كيفَ استطعتُ الصبر. عامٌ كامل، يمضي اليومُ فيه ممزقاً بين احتياجات الحياة. كانت عاصفةً من الأحداث. من مهاجرٍ تصالحَ مع يائسه، إلى ناشطٍ اجتماعي يعيش حياةً حافلةً باللقاءات، والاجتماعات، ثم إلى رأسمالي مستجد يلاحق لقمة العيش كمعلنٍ عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عامٌ بأكمله والكتابة نداءٌ ملح. حاولتُ أن أجعل نفسي أحد هؤلاء الذين يمكنك أن تعقد معهم موعدا بعد سبعة أيام وثلاث دقائق، لم أستطع، وليس ذلك من طبيعتي. اعتدت طوال سنوات نشأتي أن يمضي معظم اليوم وأنا على لوحةِ المفاتيح، أسكب النثر أو أنحت الشعر. عشتُ أجمل أيامي ككاتب عندما كنت يائسا، غير مقبل على هذه الحياةِ بما فيها من زحام، ولهاث، وتوتر، وقلق، وخوف من الغد، لم أعد ذلك الصعلوك المجازف. صرتُ ربَّ أسرة، وهذا في حد ذاته قلق وجودي حارق، ودافعٌ معنوي ساحق، ولعامٍ كامل أحاول صناعة وقتٍ يمكنني من الكتابةِ بانطلاق، دون أن أخاف من ضياعِ عملي، أو ضياع التزاماتي الأخرى، وأخيرا، بعد سنة كاملة وجدت الطريقة التي تجعلني أجمع بين الكتابة والحياة. دفعت عاما من حياتي بعيدا عن أحب ما أحب في هذه الحياة، والآن جاهز للكتابة، مستعد للتفكير بالكلمات المكتوبة بعدما قضيت سنوات في العصف الذهني المرئي والمسموع، ذلك العصف الذي يخبرك عن جذور أفكارك. في الكتابة الأشجار تعصف بأوراقها، ترى أمام عينيك ذلك المعنى الذي يتكون ببطء، تعرفُ لماذا كنتَ تكتبُ بلا توقف.
عامٌ من الهدوء التام، والتأمل، وإعادة حساب قرارات الحياة، والأهم السعي نحو حياة مستقرة خالية من التقلبات، وبعيدة ــ كما آمل ــ عن المواجهات. لقد صرتُ جاهزا لأعيد تعريف معنى أن يكتب المرء خارجَ جنون الدفاع عن النفس، أو الصدام الاجتماعي. لم أعد أخشى من غضبي، ولا من انفعالي الحاد، قلمت آمالي المستحيلة، ورضيتُ بأبسط حياةٍ ممكنة. جيتار، وعود، وبيانو كهربائي، ولوحة مفاتيح [مايكروسفت] المهندسة لتتناسب مع أبعاد اليد البشرية. كل الظروف مؤاتية للكتابة، فلم لا!
كنتُ أعرِّفُ الكتابةَ ذات يوم على أنَّها المهارة التي تتمكن بها من معرفة، وحفظ، وتوثيق أفكارك ومشاعرك، والتفكير والتأمل بها. هذا الجزء الأخير من التعريف هو الإشكال الذي اضطررت للتعايش معه لعامٍ ونصف من الحيرة. متى أكتبُ؟ بقي هذا السؤال حائرا طوال مراحل العامين الفائتين تقريبا. كنت أحاول أن أعوِّضَ عطشي تجاه الكتابة بملئ الفراغات التي تحدث في اليوم بالتغريد، وبطريقة غريبة أيضا! فقد حولته بشكل ما أو بآخر إلى منصة للتدوين المطول. حدث ذلك بالتدريج وكُل الزحام الذي أعيشُه يتنظم مع الوقت، ويتحول إلى وصفة معقولة للحياة والكتابة.
وكأنني مسحور بندّاهةٍ لا أعلمُ ما نسجته في دمي. أقوم بعملي كله بالمراسلات، طيب لماذا لا تستخدم الهاتف؟ سأبتكر ثلاثة آلاف عذر بحجة أن الكتابة توثيق وتسهل معرفة أين وصلتُ في الاتفاقيات مع المُعلنين. طيب لماذا لا تسجل ملاحظات على الجنب، وتنهي التزاماتك بالهاتف؟ هيهات، وكلا، ولا! لم أفقد دهشة تكون الكلمات أمام عيني، ولا نغمات الأزرار وهي تصنع كلمة، فكلمة، فجملة! حتى وإن كان ذلك في الواتساب، أو في تغريدات سريعة، إنها لحظة دهشة دائمة، لا تتوقف، ولا تضمحل.
اليوم إجازتي، أول يوم راحةٍ لي منذ شهور طويلة، لا عمل، لا اتصالات، لا مراسلات مع فريق المونتاج، لا استلام لسيناريو، أو تعديل لإعلان، ولا تسجيل لمادة صوتية أو تصوير لأخرى، اليوم مخصص لهذه اللحظة، لهذا الانطلاق والتداعي لحر، لهذا النفس الكتابي الذي صرت أخشى أن أخسره في زحامِ الحياة وما بها من إكراهات تدفعك للسعي، والتخطيط.