لا أعرفُ لماذا! كيف سحبتني لوحة المفاتيح مجددا إلى غيهبها المألوف؟ أيضا لا أعرف. ما سر هذا النداء الأخَّاذ والآسر للاعتزال عن هذه الحياة الضاجَّة بالملهيات، واللذات، والصخب الاجتماعي إلى هذه الجلسات المطولة من النحت! الجلوس مع جلاميد الذاكرة، وحبال المعنى. صنعة عبثية بمعنى الكلمة ولكنها ذات معنى كبير في الحياة بشكل عام، وفي تعامل الفرد مع قيمته بشكل خاص.
الكتابة شيء إذا عرفت غايته فقدت معناه. لذلك تبقى أسبابها الغامضة أبرز حضورا في وجداننا من تلك المتعلقة بالقيمة العملية للحياة. تنسجُ من المعاني التي صنعتك نظريةً، أو منهجا، أو مهارة، أو طريقة، أو حوض معلومات يسردُ من يشبهك ومن يختلف عنك. لماذا تفعل ذلك؟ تظهر الإجابات بعد مرور المرحلة برمتها، ستكون وقتها قد تغيرتَ، وصرتَ إلى ما أصبحتَ عليه من كائن مؤقت ما يلبث أن يمضي بعد الوقت ليتغير مجددا. الكتابة ذلك الشاهدُ على حياتك، وذاكرتك، والمؤرخ الأمين لأوهامِك وآمالِك.
لا عجبَ أن يقع تحت طائلة هذا النداء المغري كُل من وُصف بأنه حصد من الحياة ما يكفيه. تكفيه الأشياء، ولكنه لم يرو ظمأه من المعنى. جين الخلود الأناني، المعنوي، الذي يكتنفُ كل ما له علاقة بالإبداع، وبأفاعيل العقول في الأروقة المزدحمة، والأوراق البيضاء.
الكتابة تذكركُ بأحلامِك، فهي حبرك الذي تزخرفُ به البياض. تثقلك الأحلام، ولكنك لا تتبرأ منها، تنقذك من نفسك ومن النتيجة الحتمية لحياة الإنسان. تُعطي للزوال قيمة مُخادعة ونافعة في آن واحد. وجبةٌ أنيقة من السطور والفقرات والكلمات تُلهي نفسك بها عن غيابك الأخير، تُلاحق بها البقاء، تراهنُ فيها على أيامٍ وأشخاصٍ وتواريخ تُرحِّل الكلمات معناها إلى ظروفها المرجوة منها.
ما هي الحياة المثالية للكاتب؟ لا أحد يعلم. كل حياة مثالية للكتابة. المأساوية، والممتلئة بالأمل والسعادة. في عالم الكتابة الصنعة هي التي تُنجح المثال. تزيّنه بالوسيط الأنسب، الجامع له، السارد عنه، المحافظ عليه، والمستعرض لمزاياه.
من النادر أن أن يُنجح المثال الصنعة، وهذا حال ملايين من الناس، عاشوا حياةً مدهشة ومليئة بالتجارب ولم تضعهم ظروفهم في حياةٍ معزولة يناوشون فيها صراع الكلمات والمعاني. مع ذلك، يتعلمون بسرعة، وبعضهم ينجح، ويقفز بمثالِه إلى عالم الصنعة مِثالا إضافيا، ومعنى مضاعفا، وقصة كتاب، أو كاتبٍ فعلَ ما يحلمُ به الكتاب عادة، كتب كتابا ناجحا.
لماذا أكتب؟
لا أعرف لماذا.
أعرف أنني أشعر بالغربة عندما لا أكتب.
معاوية