بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 28 فبراير 2022

هلع وأسئلة ..

 وقت الكتابة. ومعرض الكتاب يطيّش عقلي بمعنى الكلمة. هذا الشحن العاطفي، والإرهاق الجسدي، والسعي المتواصل، والجهد الكبير، واللقاء مع الأصدقاء، والزحام، والتشتت، والتشعفط، وكل القلق، والشعور الهائل بتعويض فقدان حياة وعُمر ذهبَ في الخواء، والتعاسة، والضياع، والشتات!

ويعود ويسألني الأصدقاء،لماذا تفعل هذا بنفسك يا معاوية؟ تذهب وتعتذر مرارا وتكرارا، لماذا تفعل ذلك بنفسك؟ لأنني [معذور]، هذا هو السبب، الكل يتخذ لي عذرا، إلا أنا! هذا الذي لا أقبله، يجب أن أعتذر، وأن أعيش تلك اللحظة القاسية على النفس، والشعور بالحرج. هذا يهذب النفس أكثر من الغفران.
وكل يوم أكتشف ضخامة القائمة، يا إلهي! أكثر بكثير مما أتوقع. المؤلم حقا هو اكتشافي أنني هاجمت بضراوة وشراسة إنسان من الأساس أحبه كثيرا، يااااه، مسكين يا حشر المنذري! أي مأساة أن تقضي أعواما من حياتك غاضبا، وغارقا في العصبية! الكل يقول لي: لا تفعل ذلك ولسبب ما أصر على فعله.
الأمر ليس نُبلا، ولا علاقة له بالنقاء، إنها آلية دفاع، وحماية. تحصينٌ سلوكي يغرس في الذاكرة الموقف الأخير، النهائي، ذلك الذي تشعر فيه بكل أنواع الأسى وأنت تعتذر لشخص لم يطلب اعتذارك، نزلت فيه بغضبٍ هادر فقط لأنه قال لك: الله يعيدك بالسلامة! تخيل!
لم يعد الأمر متعلقاً بمواضيع جلد الذات. إنه يتعلق بمواجهة الحقائق، واعتبارها ذاكرة حدثت. اليوم أشعر أنني أكثر تخففا من ذلك الأسى الشديد الذي عشتُه في اليوم الأوَّل. كدت أن أخدع نفسي، وأن أشعر بالصفاء، بل وربما بالطيبة حتى حدث ما لم أكن أتوقعه، واشتعل قلبي حقدا، ورغبة في الأذى.
هي نظرةٌ واحدةٌ فقط، وقعت على وجه كائن بعينِه، وانفلتت شياطين الحقد من عقالِها. وذلك الشعلة الضاحك في معرض الكتاب يعقد حاجبيه، وتدور في رأسه كل شياطين الاذى، والرغبة في الانتقام، والتدمير، وربما ما هو أكثر، ثانية واحدة كانت كافية لأعرف الخوف مجددا، خوفي من نفسي!
لم أعد هشا كما كنت، صرت أقاوم. واتخذت وسائل دفاعية متعددة ومنها الأصدقاء الذين لم يتركوا جانبي. مع ذلك، في تلك اللحظة من الحقد الشديد، والغضب الكامن، والرغبة في إيقاع الاذى استحضرت كل تمارين الحضور الذهني، وتذكرت أن أتنفس، وقررت أن أبتعد عن مكان ذلك الكائن الوضيع الغافل.
كانت ضربة كافية لتزيح عني ذلك الوهم الكبير، أنني صرت مثل كثيرين، طيبا، ولطيفا. والآن فقط أتساءَل، لماذا أقتص من نفسي؟ لماذا أصر على تلك الاعترافات المذلة والمهينة أمام إنسان أذيته، لماذا أفعل ذلك وهو لم يطلب مني ذلك، بل ويؤكد لي غفرانه، وأنه تجاوز كل ذلك! لماذا! لقد عرفت السبب!
إنها حيل النفس ومكائدها. كل ما أوقعه بنفسي من حرجٍ، ومن ألمٍ وأنا أعتذر للواحد تلو الآخر، سواء على تغريدة، أو اندلاعٍ هائلٍ في وجهه فقط لأنه قال لي[الله يعيدك عمان سالما!] كان تعزيزا لمفهوم [عدم المسامحة]. لا أسامح نفسي، لأنني لم أسامح غيري. لأنني ما زلت أحقد عليه، وأمقته كثيرا!
شعرتُ بالذعر الشديد، وفهمت سر ارتباكي النفسي، واضطرابي الكبير. وبينما يحيط بي الحب، وأرفلُ في نعم الله، تنفلت شياطين نفسي من عقالها، ويأخذني عقلي إلى خيالاتٍ بعضها يصل إلى العنف الجسدي، والاشتباك، وما هو أقسى من ذلك. حالة مفزعة من الحقد الشديد، والغضب المكبوت، والغل بكل معانيه!
كان يفترض أن أكون سعيدا، أن أحتفلَ بالأشياء الجميلة التي حدثت اليوم. لقائي في إذاعة مسقط أف أم، نجاح مبادرة الطلاب، خمسمائة كتاب تقريبا، الاحتفاء برواية مائة عام من العزلة، وجهٌ واحدٌ كان يكفي لأشعرَ بكل أحقادي الماضية، وبكل رغباتي الدفينة في إيذاء أحدهم أبلغ الأذى وأقساه.
وأخيرا فهمت السر، وعرفتُ لماذا أفعل ما أفعله. أرفض كل من يمنحني عذرا، لأنني أرفض أن أمنح عذرا. وهما ثلاثة أشخاص فقط، اثنان منهما أراهما دائما، وواحد منهما رأيته مرة واحدة. أولئك الذين تركوا أذى مزمنا لا يبرأ، حيث لا قدرة لي على الغفران، ولا ينتصر في نفسي سوى الحقد والكراهية.
وهو شعور مؤذ بمعنى الكلمة. الرغبة في الانتقام، بعد الانتقام! ألا تكون قد اكتفيت من إيذاء إنسان أذاك. شعور مؤذ بمعنى الكلمة، ويكشفُ لي أن المشوار بعيد، وأن الشفاء ليس قريبا، وأن اللطف واجب اجتماعي، أما العفو، والصفح، والحلم، فهي قرارات وجودية لا تأتي بضغطة زر.
وليس بيدي سوى أن أدعو الله أن ينتقم لي ممن أذاني، وأن يحميني من نفسي، وألا يبطرني نعمةً أنعمها علي. اللهم إني أشكو إليك تعبي وقلة حيلتي، اللهم إني أشكو إليك سوء نفسي، وحر قلبي، وظمأ جوارحي للأذى، وللانتقام. اللهم إني أشكو إليك نفسي، فقني من شرها، والهمني تقواها.
اللهم إني أعوذ بك من البطر، ومن العمى عن النعمة. اللهم لا تبطرني ما أنعمت علي به، والهمني العفو، وأن أعفو. وقني شر أحقادي، وسوء أفكاري، وسجنَ ذاكرتي. اللهم إني لاجئ إليك، متوكل عليك، احمني اللهم من نفسي، ومن شرورها، ومن شهوة أوزارها، ومن كيد الحاسدين، ونشوة الحاقدين.
وبعد سبع سنوات من الغياب عن هذه اللحظة، كم كان صادما أن يفسدها وجه واحد، ذلك الوجه القبيح المسكون بأقنعة الغفلة. كيف للحقد أن يحرم صاحبه من فرحةِ ما يستحقه، ومن الهناءة بالذي يصبو إليه! وجهٌ واحد كان كافيا لأبحث عن أقرب حافة حادة. لأخاف من نفسي مجددا!
وكنت قد صدقت لفترة، أنني صرت طيبا، بل وصدقت أنني أصبحت طبيعيا! بعض الدروس تأتي من الذاكرة، وبعضها يأتي من الأحداث، تلك الصدف التي تثبت لك جاهزيتك للغضب، واستعدادك للكراهية. لحظة واحدة تكفي لتتذكر من أنت، وما أنت عليه، وما صرت إليه، وما تخاف أن تكونه! لحظة واحدة فقط!
وهذه الحياة! عذاباتي التي أعيشها، والتي أقبلها. آلامي التي وزعتها بكرمٍ على من سببها ولم يسببها، وشقائي المستمر، وحربي التي لا تتوقف، وأسئلتي الحادة التي تقطعني من الداخل. هذه الحياة! كلُّ ما هربتُ منه، وما هربت إليه. هذه الحياة! كل ما لا أفهمه .. ولا أريد فهمه! ولا أحاول فهمه!

باكر قررت أعيش اللحظة في معرض الكتاب. أمر على دور النشر، وانتقاء بعض الكتب الجديدة المغرية بالاقتناء. وأذهب إلى مقابلتي في مسقط أف أم بروح قضاء وقت ممتع، وأن أزيح عن ذهني الشعور المقلق بقهرية الإنتاج، وفعل شيء ما، واستغلال كل ثانية كأن الدنيا ستطير لو لم أفعل ذلك ..
مليار مرة أسأل نفسي، لماذا لا أستمتع بالحياة؟ هل هي عقدة الفشل؟ أو الشعور بعدم التحقق؟ هل أعوض عن ذلك العمر الذي ضاع في المخدرات؟ والغياب، والغضب؟ وعقاقير الهلوسة، وكل المؤثرات العقلية؟ هل هو شعور بالطمأنينة، وأنني أريد [أشتغل]، وأنجز شيئا، وأفعل شيئا؟ هل هو قلق الخوف من الحياة؟
هل هو الأثر المزمن لاضطرابي النفسي؟ وما تلا ذلك من أعوامٍ من الغضب، والقلق، والانفصال عن الواقع، والشك في كل شيء، وعدم الاطمئنان لكل شخص. رحمني الله بالأصدقاء الذين اختبرتهم ظروفُ الحياة. أنعم الله علي بما أستقبحُ عدم شكره، وعدم الوفاء له، وعدم احترام حدوثه. لماذا أفعل ما أفعله؟
وما الذي يجعلني قلقا، دائما! لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ هذا القلق الذي لا يزول، لماذا أنا نزق، وثرثار، ولا أسكت، لماذا أنطلق محبا، وأكرُّ محبا، وأفر مشتاقا؟ وفي الوقت نفسه لماذا أنا أنا؟ بأحقادي، ومشاكلي، وغضبي، وحيرتي، وغيابي عن نفسي، وعيشي للحياة وكأنها لحظة شعرية!
ولماذا أتحمل كل هذا الضغط؟ وهذا الإرهاق المتواصل؟ وقلة النوم؟ والسعي بلا توقف في كل شيء، وأي شيء؟ لماذا أحب الجميع؟ وأشعر بالألفة مع أي إنسان؟ وفي الوقت نفسه لماذا أخاف من البشر؟ وأخاف من الثقة في الناس؟ وأقلق حتى من الذين يريدون لي خيرا؟ لماذا لماذا؟
ولماذا يجب أن أقلق؟ ألا يعلم الجميع أنني أحمق؟ وأجيب العيد؟ وأثرثر كثيرا؟ وأقول كلاما يحرجني؟ ولدي اعترافات علنية مهولة، ولم تخرج من الذاكرة؟ ولدي ما يكفي متناثرا في أرجاء الإنترنت ما يكفي لإحراج أمَّة كاملة! لماذا يجب أن أقلق؟ لماذا؟ لماذا يجب أن أعبأ؟ لماذا يجب أن أتوتر؟
ولماذا الجميع يعرف متى يطمئن لي؟ ومتى يبتعد عني؟ ولماذا الجميع يعرف نقاط ضعفي، وقوتي، ويعلم أين أنا جيد، وأين أنا قبيح؟ لماذا يجب أن أقلق، وكل شيء واضح، ومكشوف، ومعلوم، وسهل الفهم، وبيّن لأبسط إنسان، لماذا يجب أن أوضح؟ لماذا يجب أن أعترف دائما، لماذا؟ لماذا؟ يجب أن أكتب بلا توقف؟
وماذا أريد من الحياة أكثر؟ ألم أرد الطمأنينة؟ ألم أريد حياةً في بلادي، بدون أذى، وحروب سياسية، ومواجهات مع النظام، والدين، والناس، والأفراد، والعقول، والأسماء المستعارة؟ لماذا؟ كل هذا؟ لماذا؟ ماذا عساه أن يريد إنسان أكثر من الطمأنينة؟ وأن يجنب نفسه الضرر؟ وأن يعيش في صفاء؟
ولماذا؟ هل هو تراكم الألم؟ والخذلان؟ لماذا لا أشعر بالسعادة وحسب؟ ولماذا أشعر بالخوف، وبالذنب. يحتفي بي محبون لا أعلم ماذا فعلت في الحياة حتى يرزقني الله حبهم؟ لماذا أشعر أنني لا أستحق كل هذا؟ وكأنني يجب أن أخاف من يحسدني، وكأنه يجب أن أرضيه، وأن أقول له: لا أشعر بكل هذه النعمة؟
ونعم يا ماريو، هذه ردة فعل قذرة أمام نعم الله عليك، أن تشكر راجيا لا خائفا، أن تحس بكل هذا لا أن تفكر به. لست في حرب، لست في معركة، لست ملاحقا، لست سجينا، لستَ منبوذا اجتماعيا، لستَ كثيرا مما كنت عليه؟ لماذا تشعر أنك في قلب خطاياك، وأخطائك؟ لماذا تشعر أنك تخطئ وأنت لا تفعل؟
وما الذي أنت خائف منه؟ ألست مؤمنا؟ ألا تعرف أن أقدار الله حادثة؟ ألا تحيط بك العائلة؟ والأصدقاء؟ ألم تعد لبلادك؟ لماذا الآن تشعر أنك شريد وطريد؟ لماذا كل هذا الخوف؟ والقلق؟ لماذا تشعر أنك مُلاحق؟ ومتحفظ عليك؟ وكل هذا مجرد وهم في ذهنك؟ لماذا لا تعيش الحقيقة أيها البائس؟
لماذا تشعر بالغربة؟ لستَ في غربة! أنت بخير، وتمارس عملك الإعلامي، وتشتغلُ في مجالٍ تحبه، في الثقافة، والدراجات، ومبادرات جيدة. ما السيء في كل الذي تفعله؟ لماذا أنت خائف؟ من ماذا تخاف؟ من زوال النعمة؟ أم من الحاسد الذي يتربص بك؟ أم من الكائد الذي يتمنى سقوطك، وانهيارك؟
هل تعرف لماذا يا ماريو؟ لأنك تعرف لماذا تكره، ومن تكره، لكنك حتى هذه اللحظة لا تعرف لماذا تحب؟ لأنك شاعر أيها الأحمق الكبير، لأنك لست سيئا كما تظن، ولست جيدا كما تتمنى. لأنك أنت أنت، بكل حماقتك، وهذيانك، وجنونك، وخوفك الكبير من أن تصدق وهما، أنك أكثر مما أنت عليه.
وهذا آخر عهدك بهذه المناسبة الكبيرة في قلبك. كنتَ ذاهبا لشراء الشمع الخام، هذا آخر عهدك بحياتك السابقة! ثم ماذا حدث! سبع سنوات! تخيل، سبع سنوات! وأنت في حياةٍ أخرى، مرَّت عليك وكأنها أسبوع في خندقٍ من الجمر. حياة فاتت، وبداية جديدة، ومع ذلك أنت هلوع، وخائف. ومتوتر!
وهل هذا سبب مشاكلك؟ هل لهذا السبب كنت تشن هجمات كاميكازية على النظام، والدين؟ والمجتمع؟ وكل شيء؟ هل تريد أن تصنع كل أشكال الخوف لتتجنب الخوف الكبير، هذا الذي تشعر به الآن؟ الخوف من نفسك؟ ألهذه الدرجة أنت خائف؟ هل كل ذلك ان تعويضا؟ شيئا يلهيك عن خوفك الأكبر؟ هل حقا هذا ما كان؟
كنت أقل قلقا! عندما كنت منبوذا كالكلب الأجرب! يحبك من يحبك سرا ولا يبوح بذلك، ويكرهك من يكرهك جهرا ولا يخجل من ذلك؟ ورحلتَ وهاجرتَ وعدتَ، هل لأنه لم يُغدر بك؟ هل أنت حقا قلق؟ لأنك لست مُلاحقا؟ لأنك لست مكروها؟ لأنك لستَ تعيسا؟ لأنك لست في كارثة؟ لأنك صرت تعبأ؟ وتخاف على نفسك؟
وما هذه الحياة؟ العجيبة؟ غير المتوقعة؟ المأهولة بالغرائب! لعله ضغط معرض الكتاب، وإرهاق الزحام، وربما كل ذلك مجتمعا. كن غبيا كما تحب، وكما تشاء، كن ذلك [الأهبل] الذي تريد أن تكونه. هرّج كما تحب .. لا تؤذ نفسك .. ولا تؤذ غيرك. ودافع عن نفسك إن اضطررت. وعش إن استطعت وغيب نام!