وأعود للأسئلة. في هدوئها، وخارجَ ما يؤججه الصخب من قلق وتوتر. لماذا يفعل المرء ما يفعله؟ ليصدق النية مع الله؟ أم ليفعل الخير؟ ولماذا يحاول أن يفعل الخير؟ لأجل ذاتِه؟ فالخير لا يخلو من منافعه الذاتية، ولعل أبرزها حُسن الذكر بين الناس! كيف يعرف المرء صدق نيته، والنفس أمارة بالسوء؟
هل حقا يوجد إنسان خيِّر؟ لعل الخير كله هو محاولة الإنسان أن يكون خيّرا، ربما ليبدو خيرا، البعض يكفيه ذلك من الخير. يتساءلُ المرء بينه وبين ضميره أسئلة مرعبة، ولسببٍ ما يؤرقه سؤال صدق نيته، وصدقه، وصدق لحظته، وصدق فعله. هل هي قرابين؟ أم تضحيات؟ أم خسارات؟ أم غير كل ذلك؟
أرفلُ في نعمِ الله، وأجملها الحب! وأخاف. هل يجب أن أتمزقَ قلقا لكي أشعر بصدق نيتي؟ لم أعد أؤمن بهذه المثاليات. حتى فعل الخير لا يخلو من المنافع الذاتية. كل شيء تشوبه شائبة ما. والله يعلم ما تخفي الصدور، ويعلم النوايا. الحيرة هي نصيب الإنسان من نفسِه.
تلك المتاهة الغامضة!
لا أشعرُ اليوم برغبة في جلد الذات، أو في ترديد مواويلي المملة. لقد أصبت بالملل من حكاية معاوية الذي [تغيّر]. هل تغيرت حقا؟ أم أنا خبيث لئيم كاذب كذوب يخدع نفسه وغيره؟ ما زلت أتساءل حتى هذه اللحظة.
يرعبني أحيانا أن أشعر أنني مراء محترف، يريد تغطية تشوهاته وقبح أفعاله بفعل الخير!
محزن أن تشعر أن نيتك فاسدة، فقط لأنَّك تتنفعُ من شيء كان يجب أن يكون لوجه الله. كنتُ في البداية أصدق أنني أريدُ أن أكون خيرا، ثم صدقت أنني لا أريد أن أكون سيئا، والآن في هذه اللحظة من الصفاء لم أعد أعبأ، هل أنا خير، أم سيء. يجب أن أخرج من هذه الأحكام المبنية على علامة [=]
شعرت بزيف لطفي حتى جاءت لحظة الاختبار الكبير عندما اندلع غضبي في وجهٍ شاب صغير السن، يبدو أنه طالب في سنته الأولى في الجامعة.
هل كان يهزأ بي؟ أم هي نرجسيتي الضمنية التي افترسته! لقد شعرت بالأذى، فانفعلتُ انفعالا صغيرا في وجهه. أشعر بالذنب، وأشعر بالضيق، لماذا كان يجب أن يهزأ بي؟
ربما هو الموقف الوحيد الذي جعلني أعود من ذلك اليوم الحافل حزينا. هذا، وتلك الطاولة الخالية من الكتب في مبادرة دعم الطلاب، لماذا يا معاوية كان يجب أن تنفعل! لماذا لم تمسك غضبك، ألم تكن في عمره شديد الحماقة، قليل الحساسية تجاه مشاعر الآخرين؟ ما الذي جعلك تحرجه أمام أصدقائه بقسوة؟
تذكرتُ يوما من الأيام عندما التقيت بمثقفٍ عُماني مشهودٍ له. كان يبدو لطيفا، ويمزح، وصدره رحب، ثم قلتُ كلمةً ما، وإذا به يتقيأ قبح نرجسيته في وجهي!
يالغرابة الصدف، اليوم فعلت الشيء نفسه! أحاول أن أقنع نفسي أنه هو كان السبب. ردة فعلي لم تكن في محلها، ربما كان يجب أن أنصحه بهدوء.
يبدو أنني لم أتغير، ولا أتغير، لم أختلف كثيرا عن مشاكلي، كُل ما في الأمر أن الظروف المحيطة والمؤججة لقبحها الداخلي قد تغيرت.
ما زلت أصنع دفاعات بلا داعٍ. وما زلت مرتابا، وسيء الظن، وخائف، ومذعور داخليا. ما زلت في حالة دفاعية لا تتوقف، وما زلت للأسف ذاتيا متضخما وعدوانيا.
كم هو مؤسفٍ أن يكون كل ما تفعله في هذه الحياة لتعيش لحظته مؤذيا لك. أنا متأكد أن كل هذا الشحن العاطفي في هذه الفترة، وهذه الأضواء تفعل فعلتها بنفسي، دون انتباهي. كم هو مؤسف أن تتيقن أن النفس البشرية أقوى منك أحيانا. لا أعلمُ أثر كلامي على ذلك الطالب المسكين!
أشعر بالضيق من نفسي.
ولقد صدقت لبعض الوقت أنني صرت لطيفا. أحاول أن أستعيد أدبيات الكياسة مع الناس، وأن أكون لطيفا. هل أنا أمثّل ذلك؟ لأبدو جيدا أمام الذين لا أعرفهم؟ أما حقا أريد ذلك؟ بصدق لا أعرف، ولا يهمني أن أعرف. كل يوم سؤال جديد غامض الإجابة في هذه الحياة الحادة.
قلت أشياء كثيرة في هذه الحياة، أظن أن أصدقها هو: "النقاء فرصة واحدة" ..
ولا اعتراض على مشيئة الله. كتبَ لي عقابي الذي أستحقه.
سأبقى على سجيتي، وسأثق بالله، وليتني أعلم نيتي من كل ذلك، أعلم أنني أهربُ من أكثر إنسانٍ أخاف منه في هذه الحياة، وسأواصل الهرب منه بكل الطرق الممكنة.
وأعلمُ أنني سأعود لعزلة الكتابة قريبا، وسأخفف من كل هذا الاندماج الاجتماعي. أحيانا أشعر وكأنني عضو مجلس شورى مترشح يبحث عن أصواتٍ أكثر من كوني إنسانا اجتماعيا. لا أهرب من ذلك الشعور المزعج وكأنني سياسي، يريد أن يترشح لرئاسة حزب.
كم هو مرهق ألا تعرف حقا نيتك من كل ما تفعله!